حين ينام العقل تستيقظ الوحوش

” لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”… حتى قالت الفلاسفة إنه العالم الأصغر.

وأمهاتنا كن يقلن كلما سمعن عن ولاّدة قامت بالسلامة: الحمد لله على الخلاص والخلقة بين الناس. أي أن يأتي الطفل مكتملا دون تشويه.

ونعود إلى الفنان فرانشيسكو دي غويا وكنت قد اقتبست لوحته الشهيرة: حين ينام العقل تستيقظ الوحوش” (1798) في مقدمة إحدى قصصي في مجموعة “ثرثرة في مدار السرطان”. وقد اتسمت أعمال غويا في مرحلة متأخرة من حياته بالسوداوية والتشاؤمية نظرا لحالته النفسية إزاء غزو الجيوش الفرنسية لبلده إسبانيا، وفقدانه لحاسة السمع، وظروف حياته البائسة، فرسم لوحات عديدة مرعبة سوداوية علقها على جدران منزله. ولعل لوحته” ساترن يأكل أولاده” الأكثر رعبا، والتي اعتبرها البعض بأنها الأبشع في تاريخ الفن.

هذا الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم، كيف تحول إلى وحش كاسر، استيقظت كل نزعات الشر في نفسه، فقد عقله، تناسى كل القيم الأخلاقية والإنسانية، تغيرت ملامحه وكأنه يخرج من جحر في غابة قديمة ليحمل أسلحته الفتاكة ويمعن قتلا وذبحا في الناس جميعا وخاصة الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا ذنب لهم في الحروب الوحشية الدائرة رحاها على أرضنا العربية.

كيف لهذا الذي كان يوما “إنسان”، له أم وأب وإخوة وأخوات أن يذبح إنسانا ويخرج كبده ويتباهى به أمام الكاميرات، وكأنه بفعلته الشنيعة هذه، قد حرر بلاد المسلمين، والآخر الذي قتل أمه أمام رفاقه لأنها دعت له أن يهديه الله ويرجع لأهله. وغيرها من القصص التي تعمي الأبصار وتترك حسرة كبيرة بما آل إليه وضعنا المزري.

هل كان هذا الإنسان، قبل أن يصبح وحشا مغررا به، بحاجة لأن تخلق له أمريكا والصهيونية وأتباعهم من العربان، “ربيعا عربيا” عنوانا لمؤامرة كبرى للقضاء على الإنسان العربي وتفتيت أرضه وقتل أناسه، وهل كان هذا الإنسان مضللا مغيّب العقل، لينجرّ في حذاء هذا الربيع وهو لا يدري ما هي أهدافه، وهل حقق هذا الربيع أهدافه والدماء المسفوكة تغرق البلاد والعباد.

أتابع ما يحدث في العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا وتونس ومصر والصومال، وأتساءل: كيف يمكن للعاقل أن يستمر في الحياة وهو يرى النيران تشتعل من حوله، وإخوته يُقتلون ويقتتلون. هل يجب أن نصالح عدونا لنعيش في أمن وأمان. هل علينا أن نجاري المطبعين وهذا العدو اغتصب أرضنا وقتل أهلنا وما يزال. وكيف لهؤلاء الذين يمثلون الشعب الأردني أن يوافقوا على صندوق الاستثمار والتعامل مع العدو الصهيوني. تبا لهكذا مجلس إلا نخبة قليلة قالت كلمة حق.

فحتى متى نبقى غارقين في التفاهات والضلال والتضليل، وفي الجدال العقيم، وفي أخبار الفنون الرخيصة والبرامج التافهة والمسابقات التي تسعى لسرقة مال المواطن المسكين المغفل، وفي الإعلام المضلِل، وفي الطائفية الكريهة.

ما كان أجمل تلك الأيام، من دون تكنولوجيا التي تهدر وقتك وعقلك وكيانك، أم هو الإنسان الجاهل الذي شغلته فرحته بها عن أن يحسن استعمالها، فنسي صلة الرحم، ونسي أباه وأمه وكل من يمتون له بصلة. وقد قال المتنبي يوما: يا أمة قد ضحكت من جهلها الأمم.

إنه العقل، حين يغيب، يفتح صندوق باندورا على مصراعيه لكل أنواع الشرور. (وهو الصندوق في الميثولوجيا اليونانية الذي يحوي كل شرور البشرية).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى