محكومون بالأمل !

على الرغم من كل هذه الاضطرابات والاشتعالات والتجليات السلبية والكارثية التي تدور في كل بقاع وطننا العربي الكبير ، وعلى الرغم من كل هذا الانسداد والجزر والانحسار وضعف الارادة والقرار ، إلا أننا نبقى نقول بمنطق تاريخي حافز بأن مثل هذه المشاهد المعتمة والمجريات النكوصية لابد في النهاية أن تنتج أسئلة مدببة وضاغطة وإجابات جديدة ومغايرة محملة بوعي نقيض وإرادة متجددة للتغير والتغيير ، ولا بد ( بعيدا عن الحتمية والوثوقية المطلقة ) في لحظة تاريخية معينة أن يتولد من هذه الفوضي إشارات ومجلوبات استنهاضية مغايرة لتستقر الأمور على أفكار واستبصارات وادراكات ومعطيات وأحوال جديدة .
اللحظة الصعبة التي نعيش هي كما نحسب دورة تاريخية التباسية جديدة في مخاض هذه الأمة تناقض معطياتها تماماً ومضة الأمل وكل ما تبدى ولاح لوهلة من احتمالات منذ عام 2011 بأن وعياً عربيا تغييرياً جديدا قد تفتح وأن ثورة على الأبواب سوف تجري ضد الذات العربية المجروحة والمنجرحة أولاً وضد الاستعصاء والاستبداد وكل صنوف الاستنقاع والاستخذاء والتبعية والضياع الذي عاشته الأمة في العقود الأخيرة .
ولأن خيبة الأمل بما حدث في أكثر من قطر عربي كانت كبيرة وبكل ما جرى ويجري حتى اللحظة إلا أننا بقينا نتمسك بفكرة جوهرية بأن الجماهير التي ثارت وانتفضت وغيّرت بعض الجزئيات المحدودة في بعض أنظمة الاستبداد سوف تعاود التفكير بصناعة الفرص والآفاق الجديدة للتغيير بعد أن شعرت هذه الجماهير بأخطاء وكوارث التمرد العفوي المنفلت على عواهنه ووعت ضرورة وجود نظام ومنهاج وبرنامج لحراكها الثوري والاحتجاجي ، وبعد أن فتحت بهذه العفوية الأبواب على مصاريعها لإجهاض ثورتها وحرف حراكها عن مساراته المطلوبة.
الذي يفلت من العرب ويتفوت في هذه اللحظة التاريخية هو الزمن المبدّد وغياب الفرصة السانحة لصياغة المشروع العربي الجديد ، وهو الزمن الراكد المنكفىء ذاته الذي أصبح يؤول في مجمله إلى القوى المعادية لنهضة وحرية العرب ولصالح المشروع الصهيوني أولا ومن ثم المشاريع الاستعمارية الكبرى والمشاريع الإقليمية البازغة الطامحة والطامعة.
والذي أصبح يهدد وجودنا وعقلنا منذ عام 2011 هو هذا الاحباط المفجع ، وفقدان المناعة ، والشعور بالعجز والانسحاق والاندحار وفقدان الأمل بمستقبل تاريخي واعد للأمة العربية ، إضافة إلى كوارث الاقتتال والتفتيت السياسي والمجتمعي والانقسامات الإثنية والمذهبية وتحلّل كل الروابط القومية المشتركة التي كانت تجمع الأمة العربية على الأقل من ناحية الشكل والعنوان .
ولذلك فإن أي ردّ معاكس مفترض وقادم للأمة – في حال اكتشافها لذاتها وصحوها ونهوضها – لابد أن يبدأ من فهم هذه المعطيات الآنفة وهذه السايكولوجيا النكوصية السائدة والعمل على كل الجبهات للخروج من هذه الدوائر المغلقة والاستجابات التشاؤمية المحبطة إزاء ما يجري .
وأول ما يمكن البدء فيه ( وهو من الممكن والمتاح ) هو تغيير منهج الرؤية والقراءة لكل ما يجري في وطننا العربي والانتقال من الرؤى الضيقة القاتمة المأزومة إلى الرؤى التفاؤلية المفتوحة أخذين بالاعتبار كل المشاهد والظواهر والحالات الحرجة والصعبة والخطرة والمقلقة التي تمر بها الأمة وعدم القفز عن الواقع بالأفكار الغيبية والرغبية والتأملية والوعظية وما شابة ، ويمكن لهذا النمط من المناهج ( المتحررة من اليأس ) أن يعطي نتائج مغايرة وفقا لما نضعه في آليات ومجريات ومسارات اشتغالها من معطيات ايجابية استنهاضية .
هذا التشاؤم والإحباط ( الواقعي والذي أصبح يراه البعض من لزوميات التفكير بحال الأمة) الذي يغلف العقول والبصائر في المرحلة الراهنة لن يكون المنجّي بأي حال ولن نحصد في حال استمراره إلا بؤسا وضنكاً وانسدادا أشد ولن يسعفنا في وعي حالنا ومآلنا وسوف يضاعف من محنتنا العربية ويدخلها في أطوار أصعب وأضيق .
الذي يقرأ التاريخ العربي ( الحالي منه والمباشر ) ويسارع للوصول إلى قناعات ويقينات تشاؤمية مغلقة تعلن الموات والانتهاء والاندثار ، هو ذاته من يمكن أن يقرأ هذا التاريخ بمنهج تجاوزي مغاير فيه قدر من الأمل ليضع الأمور في نصابها الموضوعي الصحيح ونقلها من خانة التهويل إلى خانة المعقول والتهوين الايجابي الحافز ولكي يراها أحداثاً ومحناً حدثت في بلادنا وعند كل الأمم عبر التاريخ ويمكن التصدي لها والانتصار عليها والأهم في كل ذلك ليس التصور وإنما انبعاث الارادة والتحرك والانتهاض ، والإنسان العربي المقهور والمهدور والمحكوم بالأمل كان طوال التاريخ ولا يزال هو الذي يرى ويقرأ ويصنع الأحداث والمتغيرات .. فلماذا يريد البعض أن يسلبه حتى فسحة الأمل !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى