مطلوب وقفة مع الضمير حتى لا تغرق عمان وتتنفس مجدداً تحت الماء

يوم الاربعاء الرابع من الشهر الجاري استقال رئيس الوزراء الروماني فيكتوربونتا انصياعاً لمطالب متظاهرين احتشدوا احتجاجاً على الحريق المميت الذي التهم ملهى ليليا في بوخارست، وكان نحو 20 الف روماني قد شاركوا في الليلة السابقة في مظاهرات عمت شوارع العاصمة ومناطق اخرى، مطالبين بان تكون استقالة الحكومة ”حكومة بونتا” بداية عملية اصلاح للطبقة السياسية والادارة العامة التي يعتبرها كثيرون من الرومانيين فاسدة.
المتظاهرون الذين وصف تحركهم الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس بأنه ثورة حقيقية، اثارهم حريق اندلع في ملهى كولكتيف الليلي يوم الجمعة 2015/10/30 وأسفر عن مقتل 32 شخصاً وجرح 200 تقريباً ما اشعل الاحتجاجات وجعل بونتا يرضخ لها قائلاً للصحفيين : ”يمكنني خوض اي معركة سياسية- لكنني لا استطيع ان احارب الشعب”.
ولمن لا يعرف فان رومانيا هي احدى دول اوروبا الشرقية التي رزحت قراية 51 عاماً تحت حكم نيكولاي تشاوتيسكو الدكتاتوري، وكانت غارقة في الفساد بعد ان احكم هذا الرئيس قبضته الحديدية عليها، واتسم حكمه الذي بدأ عام 1974 وحتى عام 1989 بالشدة والدموية على الرغم من بعض الانجازات في المجالات التنموية والعلمية والثقافية، وقد قامت ثورة عليه ايدها ودعمها الجيش، فولى الادبار هارباً مع زوجته، الا انه لوحق وحوكم من قبل عدد من ضباط الشرطة العسكرية، وصدر عليه وزوجته حكم بالاعدام في اسرع محاكمة لديكتاتور في القرن العشرين، وقد تم تنفيذ حكم الاعدام فيهما امام عدسات كاميرات التلفزيون.
لسنان معنيين بتسجيل لمحات من تاريخ رومانيا، ولكن القصد تبيان مدى اقبال الرومانيين على التعاطي مع الديموقراطية بأريحية بعد سنوات القمع تلك، فبدا اعضاء الجهاز الاداري الاعلى والكتلة الشعبية وكأنهم اناس متجذرون في العمل الديموقراطية منذ سنوات طويلة، ومنها جاءت الاستقالة لتعلم المسؤولين في غير مكان كيف تكون المسؤولية السياسية والاخلاقية، في حين ان ”جماعتنا” في عمان تعاملوا مع غرق العاصمة في شتوة الخميس الخامس من الشهر الجاري على طريقة ماري انطوانيت التي استغربت كيف يتظاهر الفرنسيون من اجل الخبز بينما البسكويت موجود.
فما بين لائم لعامل وافد كيف يترك اولاده ينامون في تسوية البناية التي يحرسها، الى لائم للناس كيف يسكنون بالطوابق الارضية، كان رئيس الوزراء د. عبدالله النسور غائباً عن المشهد وكأنه نذر للرحمن صوماً، وهو الحريص على الظهور الاعلامي باستمرار، فيما كان وزير داخليتنا المخضرم سلامة حماد بطل المشهد الى جانب رجال الدفاع المدني، والسير والامن العام، وبشكل عام تسابق المسؤولون الى توجيه اللوم وتحميل المسؤولية الى التغير المناخي والاحوال الجوية في حركة مكشوفة وبائسة لجهة تعليق الاخطاء على شماعات لا تخصهم، ما يعني تخليهم عن مسؤولياتهم، في حين ان الحكومة الرومانية التي تزامنت ”مشكلتها مع مشكلتنا” تقريباً تصبب جبينها عرقاً، وقررت الاستقالة، اما عندنا، فالمسألة محصورة في اختيار اكباش الفداء، والنيل ممن لا يتفقون معنا في الرأي.
المراقبون الذين رصدوا ردود الافعال الرسمية على ما اصطلح البعض على تسميته ”العاصفة المطرية” – مع ان مسؤولاً في الارصاد الجوية اكد ان هذه ”الشتوة” عادية جداً وليست فريدة من نوعها- قالوا ان ما حدث كشف ان ثقافة التبرير لدى المؤسسات الرسمية ما تزال عقيدة ثابتة، وبالتالي فهم يرون ان الذي غرق ليس شوارع عمان وانفاقها، بل ان الادارة الحكومية بكل مؤسساتها هي من بات يتنفس تحت الماء.
المراقبون سجلوا لوزير الداخلية سلامة حماد، ومدير الدفاع المدني طلال الكوفحي وقوفهما في الميدان يشرفان على عمليات الانقاذ، ويثبيتان ان المواطنة ليست بالاقوال الطنانة والشعارات والفذلكات، بل هي بالافعال الامينة وتحمل المسؤولية، وممارسة الصدق مع الذات ومع الناس شأن ما قاله الوزير حماد حين كسف ان مناهل عمان مغلقة، ما يعني ان تلك الشعارات التي اتخمتنا بها امانة العاصمة كانت محض كلام من في الهواء.
كان لافتاً خلال ”الشتوة” ان المسؤولين حملوا شدة انهمار المطر مسؤولية ما حدث، واضافوا عليه قدم البنية التحتية، وخروج الناس الى الشوارع والى الاتربة والرمال والجبال.. ولكنهم لم يذكروا شيئاً عن عيوب عديدة من بينها ضعف توقع النشرات الجوية، وسوء تصميم العمارات بما فيها من تسويات وكراجات مفتوحة للمطر، والعيوب في تصميم الانفاق، وفوق هذا وذاك قلة المال لاجراء الاصلاحات والتعديلات المطلوبة.
رداً على هذه التبريرات تطرق مراقبون الى مسألة الانفاق التي كانت حلاً سحرياً برأي البعض للمشكلة المرورية، لكن هذه الانفاق تتحول في فصول الشتاء غير العادية الى مصائد مائية للمواطنين ينتج عنها خسائر مالية لم تكن بالحسبان، وتذهب الى صيانة السيارات والآليات التي علقت في الانفاق وتعطلت، ما يعني ان العناية بالانفاق تحتاج الى اجراءات جديدة مبتكرة غير تسليك المصارف وتجريف ما يمكن تجريفه بطريقة بدائية.
هنا حمّل المراقبون مسؤولية خلل الانفاق الى الجهات التي تطرح العطاءات او تحدد شروطها، ومنها عامل الوقت الذي يدور غالباً في فلك الستين يوماً، وقالوا ان مدة التنفيذ رغم اهمية الالتزام بها، ليست مهمة بحد ذاتها، لانها لم تعد ذات قيمة مضافة، وكان الاولى اعطاء الوقت الكافي الذي يسمح بحفر انفاق اكثر اماناً وهي تتعامل مع شتى الاحتمالات المرورية والمناخية، بما في ذلك التقنيات الضرورية التي تحتاجها متطلبات السلامة الخاصة بها، ونوعية ومقاسات انابيب التصريف المناسبة لها، والادارة المتخصصة المعنية بتفقدها ورعايتها.
وفي خلط للهزل بالجدل قال مراقبون ان الاردن دولة شتوية، ما يعني ان معظم عيوب البنية التحتية ومشاكل المواطنين تظهر في فصل الشتاء، وهذا يقتضي التفكير باعلان حالة طوارئ شتوية خلال هذا الفضصل، وامعنوا في سخريتهم حين طالبوا بضرورة عدم السماح للمسؤولين المعنيين بمغادرة البلاد خلال فصل الشتاء، لان الادارة هنا، شاء من شاء وابى من أبى، مرتبطة بالشخص وليس ”بالسيستم”، وهي ادارة بالعلاقات الشخصية وليس بالنتائج، ما يعني ان هذه النوعية من الازمات كاشفة لثقافة الادارة، الشكلية في هرميتها والفوضوية في مفاعيلعها والشخصية في تركيبتها.
وذهب بعض المراقبين الى القول ان ما حدث كشف ان الاعتبارات بالبنية الفوقية على اهميته ومركزيته وضرورته، لا يعني اهمال البنية التحتية، ذلك ان عمان اليوم تختلف عما كانت عليه في الامس، وهي تنمو بمعدل اسرع من معدل النمو السكاني، وبنيتها التحتية الحالية لم تعد قادرة على استيعاب التطورات المختلفة فيها، ما يعني ان هذه البنية التحتية هي التي تحتاج الى تحديث ومتابعة.
في مقال بعنوان : ”هل ادارة الازمة في الاردن بالقطعة ام بالحظ ؟” انتقد الكاتب حسام عايش ما حدث، ومن جملة ما قاله انه : ”من بين كل اربع او خمس حالات مناخية عاصفة ننجح في التعامل مع واحدة، اي بنسبة نجاح تتراوح بين %25 الى %30، وهي نسبة تعني اننا نرسب بنسبة تتراوح بين %75 الى %80، ونسب الرسوب المرتفعة هذه تعني انه لا يوجد لدينا استراتيجية معدة للتعامل مع احوال المناخ المختلفة، وان وجدت فهي في الادراج، او غير مفهومة، او أعدها خبراٌّء لا علاقة لهم بالموضوع، او لهم علاقة ولكن كخبراء قادمين من مجتمعات اخرى، او قد تكون تقليدية، والاهم ان آلياتها التنفيذية غير موجودة، وان وجدت فان من سيقوم بها غير مدرب على ذلك”.
وخلص عايش الى القول : ”انه لا قيمة لاي سياسات او افكار او تحديثات او ادعاءات بجودة الخدمات اذا لم يلمسها المواطن في كل الظروف، ولا قيمة لها اذا لم تتحول الى ثقافة من اعلى مسؤول الى كل موظف على الارض”.
وفي اطار استنكار واستهجان ما حصل وقصفه بالتحليلات والتنظيرات، انتقد بعض المراقبين المطالب باقصاء المسؤول الفلاني او العلاني، متسائلين : يا ترى لو تمت اقالة امين عمان، هل سيتمكن الامين القادم من التعامل بشكل افضل مع حالة مماثلة ؟؟ ولماذا نقسو على المسؤولين أينما كانوا، فهم لا يملكون عصى سحرية ؟ بالمقابل فان من حقنا ان نلومهم على عدم تشغيل المنشآت الموجودة بالطريقة الافضل، وربما بطء او تأخر الاستجابة اثناء العاصفة المطرية.
ربما كان التقاعس او الاهمال في القيام بالواجب الوظيفي احد اسباب ما حدث، وبما ان الامانة بررت انسداد عبارات تصريف الامطار، بانسياب الاتربة والحجارة من قطع الاراضي الفارغة، او من مواقع البناء، فلماذا لا تسن تشريعاً قوياً يلزم اصحاب الاراضي الخلاء والمشاريع تحت الانشاء بتسويرها، تحت طائلة الغرامات التي قد تصل لحد بيع الارض تسديداً لها.
الفقرة السابقة جاءت في سياق مقال بعنوان : ”العاصفة المطرية” ماذا لو تكررت ؟؟ كتبه المهندس كمال الزعبي – وهو خبير مائي وبنية تحتية – ونشرته صحيفة الرأي، الاسبوع الماضي وقد تساءل هذا الخبير قائلاً : ”ما دامت امانة عمان تعلم بأن التسويات، خاصة في المناطق المنخفضة خطيرة، فلماذا توافق على ترخيص شقق بها ؟ ولماذا تصدر اذن اشغال لها ؟ ولماذا لا تقوم لاحقاً بجولات للبحث عن المخالفين ؟ وكذلك لماذا لا تتأكد من وجود مضخات او وسيلة لشفط المياه من اية تسوية؟”.
وتساءل الزعبي : هل فكر احد بالزام المالكين، خاصة اصحاب المحلات التجارية، بعمل تأمين ضد الحوادث والحريق ؟ وهل بالامكان الزام الناس بهكذا تأمين أسوة بتأمين السيارات ؟ طالما انه بعد انتهاء كل موجة مطرية شديدة اوتساقط كثيف للثلوج تظهر خسائر شديدة لدى بعض المواطنين، كاضرار بالسيارات او البضائع او حتى اصابات بشرية او وفيات.
وبالعودة الى استقالة رئيس الوزراء الروماني خضوعاً لارادة الشعب، واستهجان ماري انطوانيت الثورة المطالبة بالخبز، وتصريحات اثنين من مسؤولينا يحتلان مواقع خدمية لها علاقة بالناس، حول السكن بالطوابق السفلية، نسأل : لماذا يتجرأ بعض المسؤولين على استفزاز المجتمع واهانته، وعلى الهروب من تحمل المسؤولية والتنصل من اخطائهم وتقصيرهم ؟ هل لانهم نزلوا على الشعب والمجتمع بالمظلات ؟؟.. ام انسجاماً مع مقولة : ”من أمن العقوبة.. والباقي عندكم”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى