مطلوب اجندة اصلاحية شاملة وليس مجرد قانون انتخابي متطور

في قواميس السياسة، ومعاجم العمل العام، لا وجود للغة العواطف، ولا مكان لابجدية الاهواء والمزاجيات والمشخصنات، ولا محل من الاعراب لمفردات الحب والكره والكيد والنزق والعناد الاعمى الذي يصر على ان الحمامة عنزة حتى لو طارت.
فالسياسة التي تستحق اسمها وتجسّد حقيقة معناها، ليست فقط ”فن الممكن” وفق ما هو شائع، بل هي ايضاً، وبالدرجة الاساس، منظومة علمية وعقلية واسعة من القواعد والشروط والحسابات والمعادلات الدقيقة التي من شأنها ضبط موازين السلطة بين الحاكم والمحكوم، وصون سيادة الدولة واستقلالها وترابها الوطني وادارة شؤون المجتمعات بما يضمن تحقيق امنها ومصالحها، واتخاذ المواقف واعتماد الادوار الكفيلة بتوفير افضل الصلات والعلاقات بين الدول.
في بلادنا خاصة، وفي الوطن العربي بشكل عام، لا وجود فعلياً وواقعياً للحياة السياسية الحافلة بالافكار والرؤى والبرامج والمخططات والتطلعات التنموية والنهضوية المناسبة والمؤهلة لتحقيق درجة معقولة من الكفاية والعدل والحرية والمساواة والمشاركة الشعبية في صنع القرار.. وانما لدينا – بكل اسف- حالة بدائية ”تحت سياسية” قوامها الانفعال والارتجال والتذبذب والتقلب ورد الفعل وسوء التقدير والتفكير والاختيار.
هذا البؤس السياسي المرعب لا يقتصر على الحكام ورجال السلطة وكبار المسؤولين فقط، بل يطال ايضاً قطاعات واسعة من النخب المتعلمة والجماهير الشعبية التي تشوه وعيها وتثلمت ارادتها وتاهت بوصلتها، جراء وقوعها تحت مطرقة الانظمة الرسمية الجائرة، وسندان الجماعات الدينية الجاهلة.
لدينا في الوقت الراهن ازمة شعبية ونخبوية لا تقل خطورة وفداحة عن الازمات الرسمية والحكومية، فقد اختفت ”الكتلة الحرجة”، وغابت القواسم المشتركة، وتفككت اواصر الرأي العام، واستفحلت الخلافات حد القطيعة، فيما احتدمت الصراعات وتوحشت حتى التحق البعض بعصابات الارهاب، بينما القى البعض الآخر بنفسه في احضان الاستعمار.
العالم العربي كله يمر الآن بمرحلة انعدام الوزن.. انعدام العقل والعزم.. انعدام القيادات الرائدة والقواعد الراشدة.. انعدام الامان والاطمئنان الى سلامة الدول والاوطان.. انعدام خارطة الطريق التي تهدي الى سواء السبيل ومخارج الازمات وابواب المستقبل، وما لم نشمّر في الوطن الاردني عن ساعد الجد، ونمارس العمل السياسي وفق شروطه واصوله، ونضع نقاط الصدق على حروف الصراحة البعيدة كل البعد عن النفاق والتمثيل والتدجيل، فقد يصيبنا بعض ما يجري حولنا، وقد نجد انفسنا في خضم مأزق ضاغط وخطير.
لسنا في حاجة الى اصلاح سياسي فقط، او مصالحة وطنية فحسب.. بل نحن في امس الحاجة الى ثورة اصلاحية نوعية وجذرية تشمل القمة الحاكمة والقاعدة المحكومة معاً، وتؤسس لقيام ملكية دستورية في اقرب وقت، وتشكيل حكومات برلمانية حقيقية تتمتع بحق الولاية العامة، وتحفيز الجهاز الاداري الذي تكاسل وتهيكل وترهل جراء تكدسه بالحمولات الزائدة، واطلاق حياة حزبية ونيابية ونقابية حرة ومفعمة بالحيوية والنشاط، وبذل كل جهد مستطاع لاخراج الجماهير الشعبية من عزلتها وسلبيتها، وتشجيعها على المشاركة في المسيرة السياسية والعمل العام، نظراً لان الشعوب التي تدير ظهورها لانظمتها وحكامها، اخطر الف مرة من تلك التي تناكفهم وتحاججهم وتنازعهم الحقوق والصلاحيات.
نحن في امس الحاجة الى ثورة ثقافية تطال القيم والمسالك والعادات والمعتقدات والاخلاق، وتعيد هندسة المجتمع الاردني وصياغته من جديد وفق مساطر ومعايير عصرية وحضارية ووفاقية تنأى به عما لحقه في السنوات الاخيرة من عنف وتطرف وتعصب وضيق افق ونفاذ صبر وتصلب في الشرايين، ربما بتأثير لعنة ”الربيع العربي” التي لوثت العقل العربي، واطلقت حمامات الدم وغيلان الذبح والارهاب، وتسربت عدواها القاتلة الى مختلف الارجاء العربية والاسلامية.
باختصار، وبغير اطناب واسهاب، نحن نحتاج حقاً وصدقاً الى ”اجندة اصلاحية” شاملة ومتكاملة ومتعددة الابعاد، من شأنها الدخول بالبلاد والعباد في مرحلة جديدة وجدية تقوم على ثلاثة مرتكزات اساسية.. اولها تعزيز الحريات العامة وتعميق التحولات الديموقراطية، وثانيها صون الاستقلال الوطني ورفض كل انواع التبعية، وثالثها تعميم ثقافة العمل والانتاج والاعتماد على الذات، ومحاربة ثقافة العيب وظاهرة الخمول والتنبلة والتواكل واستيراد القوى العاملة.. فليس هناك استقلال وطني بغير اكتفاء اقتصادي، وليس هناك ديموقراطية حقيقية تحت سقف التبعية السياسية والمديونية المليارية.
غير ان مشكلة الطبقة الحاكمة ونخبها الرسمية والسلطوية تكمن في عجزها عن وعي ذاتها، وتجاوز نقاط ضعفها، وتطوير قدراتها ومواقفها وقناعاتها، ورفد صفوفها باصحاب الخبرات والكفاءات من خارج الصندوق، وتوطيد اسس الدولة التي تحكمها وتمتين حواملها وترسيخ مرافقها ومؤسساتها، بعدما اصبحت معظم الدول العربية معرضة للتدمير والتفكيك والانهيار.
صدقوني، ان الحكم في الوطن العربي لم يعد الآن ترفاً وتسلطاً ورفاهية وامتيازات واوامر عنجهية، وثقوا ان الواهمين وحدهم هم الذين ما زالوا يكذبون على انفسهم وينكرون ان زمن اول قد حوّل.. ذلك لان الحكم الوطني الحقيقي المعتمد على قواه الذاتية، وليس المستند الى مراكز اجنبية، بات اقرب ما يكون، في الوقت الراهن، الى عناء المجالدة والمجاهدة والاشغال الشاقة الموزعة على غير جبهة داخلية وخارجية، وازمة سياسية واقتصادية وامنية، نظراً لان الاحتياجات والتحديات الحالية اصبحت، على مختلف الصعد العربية، اكبر واكثر من مجمل الامكانات الحاضرة والموجودات المتوفرة.
واذا كان هناك بين حكامنا من لا يزال يعتقد ان الشعبية ليست مهمة وغير ضرورية، وان الاصلاح والانفتاح على المواطنين والتجاوب مع اشواقهم وتطلعاتهم، ليس سوى منحة يجود بها عليهم، فهو مخطئ تماماً، ومنفصل عن الواقع، ومتنكب جادة الصواب، ومصاب بداء الانكار.. فقد تغيرت الدنيا العربية كثيراً بالوقت الحاضر، وتبدلت بشدة موازين القوى ومعادلات المغالبة، وتخلخلت بعنف جذور المفاهيم والمعايير والمقاييس السابقة، وباتت الشعوب في حل من استرضاء حكامها والتطبيل والتزمير والتصفيق لهم، فيما بات من واجب الحكام ومصلحتهم ومسؤوليتهم استرضاء واحتواء شعوبهم التي لم تعد تهابهم وتخاف من جورهم، بعدما عرفتهم على حقيقتهم، وامتلكت شجاعة الغضب والحرد والتمرد عليهم في اية لحظة.
انظروا كيف حرد الشعب المصري على حكامه، وعبر من خلال ابسط الطرق واسلمها عن احتجاجه على بعض السياسات والممارسات الراهنة، انظروا كيف عمد الى مقاطعة الانتخابات النيابية الاخيرة، وترك للرياح ان تصفر في مقرات الاقتراع الخاوية.. وتصوروا كيف سيكون حالنا فيما لو اقتدى شعبنا الاردني بشقيقه المصري خلال انتخاباتنا النيابية المقبلة، وماذا سنقول عندئذٍ للعالم الذي طالما تباهينا امامه بتوافقنا الوطني ومسيرتنا الديموقراطية.
وبعد..
يقول كارل ماركس : ”تفقد الدولة او الطبقة او الجماعة دورها، حين تعجز عن فهم الواقع”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى