عارنا فى سوريا

 

الطفل العربى الجميل المنكفئ على وجهه فوق شاطئ البحر مثل وطنه، أبكى الضمائر الحية وهى ترى أمواج البحر تقترب موجة موجة من رأسه المسجى تُقبلها وتربت عليها وتعود خجلى، بينما ضمائر أمته «الميتة» التى سبقته إلى مثواها الأخير لا تحرك ساكناً. «إيلان».. لماذا أنتَ وحدك يا صغيرى الذى قررت أن تكون «رسالة» وطنك الموجوع المفجوع الباكى؟ قبلك آلاف ماتوا كالأشجار وهم واقفون ودفنوا حيث عاشوا، وقبلك ملايين اللاجئين هاجروا أو هُجروا أو اقتلعوا ثم هاموا ولم يجدوا لهم منفى!

هذه المرة قلوبنا المفجوعة فيك وفى وطنك الجميل المذبوح بسيوف الخوارج والموالى والمماليك والخصيان، هى التى تلقت رسالتك المدموغة بآخر شهقة حياة ودعت بها وطنك المنكوب، وآن لنا أمةً وشعوباً وحكومات أن نقرأ رسالة «إيلان» وأن نُنعم النظر فيها، وأن نتعامل معها قبل أن نرى أجداث أطفالنا مُسجّاة على رمال شواطئ الهجرة والاقتلاع، إلى جوار ما تبقى من جثث أوطاننا الممزقة بسيوفنا وسيوف أعدائنا.

ذات يوم صرخ جان بول سارتر، أعظم فلاسفة القرن العشرين، فى وجه الجلادين الفرنسيين من بنى جلدته وهم ينصبون المذابح لمجاهدى الجزائر، وكتب كتابه «عارنا فى الجزائر» يندد فيه بالاحتلال الفرنسى للجزائر، ويطالب بمحاكمة الجنرالات القتلة، فأدمت صرخته ضمائرنا العربية وحركت فيها غريزة المقاومة. ومنذ أن عرى «سارتر» سوأة بلاده وعارها فى الجزائر، لم نجد عربياً واحداً حتى الآن يستصرخ ضميره «عارنا فى سوريا» ويتحرك فى اتجاه رفع الضيم عن بلد نذر نفسه لأمته، وظل تاريخه كله فى «الخندق الأمامى» لحروب العرب القديمة والمعاصرة. عارنا فى سوريا سيظل يجلل رؤوس العرب أجمعين، وهم شركاء فيه، بعضهم بالفعل وبعضهم بالصمت، وليس بينهم من يدعى أن يديه غير ملطختين بدماء السوريين. لقد نجحنا بعد أربعة عشر قرناً أن نخلق «كربلاء» جديدة، وأن نجدد «مظلومية تاريخية» كبرى، ضحيتها وطن من أجمل أوطان العرب، وكأن سيف «يزيد» ما زال يحصد رؤوس «آل بيت الحسين» ويلغ فى دمائهم. لماذا لم يتقدم أحد حتى الآن ليرفع الضيم عن سوريا أو يوقف الكارثة الإنسانية التى تُطبق على الشعب السورى، وتهدد دولته ووحدته ومستقبله، ثم نعود بعد فوات الأوان نعض أصابع الندم؟

نحن بحاجة إلى اختراق شجاع لأكبر أزمات العرب المعاصرة إن لم تكن أكبرها جميعاً على مدى التاريخ العربى منذ أن أعملت سيوف الأمويين عملها فى رؤوس آل البيت. لماذا تُترك سوريا وحدها -الدولة والجيش- تحارب معركة بقائها؟ والجميع يعرفون أنها إذا سقطت انهارت فى التو أحجار «الدومينو» المتهاوية بطبيعة تكوينها الفسيفسائى؟ لماذا تركنا سوريا لغزوة أممية تحالفت فيها الأضداد جميعها، وهى عادة لا تجتمع، تركيا وأمريكا وإسرائيل والناتو والتكفيريون من داعش إلى القاعدة والنصرة والجيش (غير الحر) وجند الشام ومال النفط وإعلامه، وكانت مصر فى عهد الإخوان على وشك إعلان النفير للجهاد فى سوريا لولا أن تداركتها ثورة 30 يونيو.

إن أول خطوة فى أى اختراق شجاع ناجح للأزمة السورية هو أن نعيد تصحيح الصورة الذهنية التى صنعها الإعلام للأزمة السورية. قطاع كبير من الرأى العام العربى كون رأيه وموقفه من الأزمة السورية عن طريق الإعلام القَطرى والبث المتحيز لقناة «الجزيرة» والصور المفبركة عن ثورة سورية مزعومة ضد نظام وحشى غير ديمقراطى يفتك بشعبه. وهى صور نمطية أعيد إنتاجها فى أزمات عربية أخرى واستخدم بعضها فى الطعن فى دور الجيش المصرى فى ثورة 30 يونيو (لقد انطلقت الشرارة الأولى للثورة السورية «سابقة الصنع» فى غرفة باستديوهات قناة الجزيرة فى الدوحة!). هل تركيا والنظام القَطرى ونظم أخرى تغرس نصالها فى اللحم السورى أكثر ديمقراطية واحتراماً لحقوق الإنسان من النظام السورى حتى تبكى على الديمقراطية المذبوحة وحقوق الإنسان المعتدى عليها فى سوريا، أم أنها حروب بالوكالة ضد نظام مطلوب رأسه أمريكياً وإسرائيلياً؟!

أليس الجيش والنظام السوريان اللذان يقاتلان معركة غير متكافئة ضد مرتزقة إرهابيين قدموا من 81 دولة يدافع عن الهدف نفسه الذى خرج من أجله الشعب والجيش المصريان فى 30 يونيو وهو حماية الدولة الوطنية والدفاع عنها ضد التقسيم والتفتيت وتغيير خريطة المنطقة؟! أو ليس هذا الهدف كافياً بذاته لأن تتحرك مصر بعد أن تخلصت من «ترهل» نظام مبارك «وأدران» نظام الإخوان، لاتخاذ «المبادرة الأولى» لإنقاذ سوريا، بكل ما لسوريا من ثقل خاص فى الضمير القومى للمصريين، وتخليصها من مؤامرة تطوق المنطقة وتكاد تعصف بها، وترتد بها إلى عصور الاقتتال القبلى والطائفى والمذهبى.

على مصر ذات الروابط التاريخية والوجدانية الخاصة بسوريا أن يكون لها برنامج «حد أدنى» لإنقاذ سوريا من كارثة محققة، عواقبها لا تبقى ولا تذر، تنحاز فيه إلى حل سياسى شامل لا يستبعد أحداً إلا التكفيريين ودعاة التفتيت. الخطوة الأولى فى برنامجها لإنقاذ سوريا، هى أن تصحح مصر واحداً من أكبر أخطاء الإخوان باتخاذ قرار بعودة سفيرها إلى دمشق وعودة السفير السورى إلى القاهرة، وفتح جسور التواصل الأخوى المباشر عبر السفارتين من غير وسطاء.

وعلى الرئيس السيسى الذى هتف ثلاثاً فى قمة القاهرة العربية الأخيرة «تحيا الأمة العربية» أن يُذكى -ومصر رئيس للقمة- عودة دمشق إلى مقعدها الخالى فى جامعة الدول العربية، الذى أكرهت على إخلائه تحت ضغط دول انفضح دورها فى صنع الإرهاب وتمويله وتصديره.

لست غافلاً عن المواءمات السياسية التى تُقيد المبادرة المصرية المقترحة تجاه سوريا، والقيود «الإقليمية» التى تجعل القاهرة، وهى تنهض من كبوتها وكأنها تخوض فى حقل ألغام، عليها أن تستجمع له كل حكمتها ومهارتها ودرايتها بالدروب الوعرة. إننا نريد سوريا كما كانت دائماً دولة فاعلة فى النظام العربى، ولكننا لا نريد أن تنفصم -بسبب تباين المواقف حولها- عرى تحالفات عربية جديدة ما زالت قيد التشكيل، قد تعيد للنظام العربى المترنح توازنه المفقود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى