أمة عربية بلا قرار ؟

كثيرة هي الأسباب التي قد ترد وتنهض تفسيرا للمصير الفاجع المضطرب الذي آلت اليه أوضاع الأمة العربية في مرحلتها الراهنة ، وكثيرة هي التفسيرات والتحليلات والرؤى التي قد تتبدى وتدفع الباحث في هذا الشأن إلى تبسيطها وإحالتها للأسباب والعوامل المؤامراتية الخارجية وإبراء الذات من هذا الخراب . ولأن الأهم في حالتنا الراهنة هو التغيير وليس التأمل والتفسير فإن السؤال يبقى عن كيفية التجاوز والخروج من عنق الزجاجة ، ذلك أن الاستغراق في الوصف والتأمل والتأويل والتشخيص بعيدا عن اشتقاق المبادرات والممكنات والرؤى والتصورات الجديدة يبقى نوعا من جلد الذات أو تفرجا وتجريدا نظريا لا يقدم ولا يؤخر ولا يعجل بالبحث عن البديل .
ولا مرية بأننا نحتاج في كل الأوقات والمراحل إلى قراءات ومراجعات وتشخيصات قومية عقلانية وواقعية لأزمتنا العربية ، ولابد لكل حديث عن الأزمة وعناصرها من مقدمات ومنطلقات نظرية ومداخل تضعها في الإطار الصحيح ، إلا أننا نحتاج أيضا إلى مبادرات وممارسات وبرامج وبدائل تتأسس على هذه القراءات وتؤدي إلى تغيرات في النظر إلى الأزمة واستبصارات ومعالجات للإعضالات القائمة تولد احتياجا شعبيا ورسميا لتجاوز هذا الحال والانخراط في عمل عربي جماعي رسمي وشعبي ضاغط من أجل الوصول إلى نقطة بداية في وقف التراجع وترتيب عقل الأمة على نحو جديد وعلى ضوء الخيارات المتاحة والقراءات الجديدة المخصبة للحال العربي.
لم تهدأ ولم تتوقف حالة التأزم العربية في أي لحظة من لحظات العقود المتأخرة المنقضية ولم تفلح كل المحاولات من أجل خلق مساحة حوارية – وفاقية – تفاهمية ترتقي بالأزمة الى المستويات الاستراتيجية ، ولكن التغاير والقطع مع المرحلة المنقضية كان يتمثل بوجود مرجعيات قومية وضغوط شعبية فاعلة كانت تطلق وتشتق المبادرات وتفتح الانسداد مهما استعصى وانغلق وتفاقم ، ولذلك كانت الأمور تعود إلى مجاريها في الحدود الدنيا على الأقل ومن خلال الملتقيات البينية والتفاهمات الثنائية والجمعية ، أما في المرحلة العربية الراهنة فإن المرجعيات تغيب تماما وتغيب معها المبادرات الشعبية وقوة الجماهير، وتفرغ الساحة القومية من العقل والعمل وتصبح الأمة بلا قرار وفي حالة فراغ وانشطار وتفتت لدرجة أن يضعنا العالم في تسارع تحولاته ونقائضه وكلبيته أحيانا على الهامش أو يجعلنا الاستثناء البغيض الذي لا محل له من الاعراب والوجود بعد أن أصبح الوطن العربي إسما على غير مسمى وجغرافيا بلا هوية قومية .
ولذا فإن السؤال الذي ينهض في هذا المقام يتمحور حول انبثاق وتحريك الارادة ومعاينة الممكنات المتاحة لتغيير هذا الواقع العربي وعن الكيفيات والمقدمات التي لابد أن تفتح هذا الأفق المستعصي وتشتق البديل والحلول والأجوبة على هذا الواقع بصورته الراهنة ، وهو سؤال تاريخي – سياسي يتعلق بالوجود والحاضر والمستقبل ولا يمكن صياغة الأجوبة علية بشكل جزئي وقطري وإنما من خلال تلاقي نظرات قومية في الوطن العربي واجتراح محاولات جادة لتحقيق أنماط من التفاهمات الوطنية داخل الأقطار تكون مدخلا لتصور وتطوير استراتيجيات وطنية ذات أبعاد قومية تستدرك خطورة الوضع الراهن وتنطلق للبحث عن آفاق وحدوية تفاهمية جديدة ، كما ترسم خرائط طريق لعمل عربي جماعي يستنهض كل ممكنات الأمة في سبيل المحافظة على وجودها واختطاط نهج جديد على الصعد البينية والاقليمية والدولية يعيد التوازن للقرار والرؤية العربية ، ويعيد حضور الأمة في التاريخ والوقائع المعاصرة .
لقد أثبتت الوقائع العربية الساخنة الأخيرة أن فكرة التقسيم والتفتيت قد تطال بأخطارها وكوارثها كل الأقطار وحتى الامارات الصغيرة منها وقد تهدد الكيانات جميعها وتحدث فيها انقسامات وانجراحات وتشققات وتشوهات ، وأن صورة الوطن العربي وتاريخه وجغرافيته تكاد تتبدل في الوعي العالمي وتتحول في هذا الوعي إلى قطع ومزق من الكانتونات والمحميات والملاذات والطوائفيات المتقاتلة المتوحشة ولا بد في مثل هذا الحال ووفقا لهذه الصورة الجديدة والمستجدة من التعامل مع مثل هذه الكيانيات الاستثنائية الخطرة بالإقصاء والنبذ والتهميش والبحث عن قوى طالعة ومستقرة في الاقليم لتكون رادعا لها وبديلا عنها وإخراجها من التاريخ نظرا لخطورتها على الحرث والنسل والحضارة العالمية .
وإزاء هذا الانقلاب المدبّر والمتخيل والمزعوم في الوعي العالمي والمدار وفقا للمصالح الصهيونية في المنطقة لابد من فكر وممارسة عربية مضادة تمحو هذه الصورة وتستعيد المعاني والقيم المستلبة لهذه الأمة وتؤكد حضورها في التاريخ الجديد للعالم ، وتلك كما نرى هي المهمة والمسؤولية القومية الكبرى الملقاة على عاتق العرب في اللحظة الراهنة مهما طغى الهول وتضاعفت العتمة .
والقرار أولا وأخيرا هو بيد الأمة وجماهيرها عندما تتنبه وتستفيق وتستدرك خطورة الأزمة الراهنة ومآلاتها .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى