”أسير من رفاق صدام حسين”

وثيقة للتاريخ كتبها الشهيد العزيز طارق عزيز في سجنه، بعنوان” صدام حسين في ميزان التاريخ”، مستهلا الوثيقة ببعض الآيات من سورة”القارعة”، على الرغم من أنه لم يضع اسمه على الوثيقة.
تقع هذه الوثيقة (الشهادة) في خمس وعشرين صفحة، نشرمنها الصفحة الأولى والأخيرة في كتاب الشهيد صدام حسين”من الزنزانة الأمريكية.. هذا ما حدث”. ويبدو أن هذه الوثيقة كتبت عام 2008 كما يشير العزيز في مواضع عدة مثل:” والآن بعد أكثر من خمس سنوات على احتلال العراق”.
تحدث الشهيد في هذه الوثيقة المهمة عن شخصيتي الراحل الزعيم جمال عبد الناصر وعن الشهيد صدام حسين، وعن التآمر عليهما من قبل أعداء الأمة، وتحدث عن أعداء بلاد الرافدين بدءا من السبي البابلي حتى عهد”الديمقراطية الأمريكية”، وعن الاتفاقيات التي وقعها العراق في عهد الحكم الوطني. كما تحدث عن الأمن والأمان والبطاقة التموينية في عهد الرئيس صدام حسين وعن أمور كثيرة.
يقول العزيز:” إن ظروفي الراهنة لا تسمح لي لأسباب عديدة أن أقول كل شيء مما ينبغي أن أقول عن جمال وعن صدام بوجه خاص، لأنني كنت من رجاله وكنت قريبا منه وإليه، ولكنني سألفت النظر إلى وجه واحد من الحقيقة وربما أكثر إذا سمح الظرف.. لقد مضى على احتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين أكثر من خمس سنوات. ويقول الذين جاءوا بعد صدام وحزب البعث من الأمريكان والعراقيين إنهم يبنون عراقا جديدا بعد إزاحة الدكتاتورية ونظام الحزب الواحد. ولا أقول في ذلك شيئا سوى أنني أطلب من كل مراقب موضوعي شريف ليس من أنصار صدام أو رجاله، بل من الناس العراقيين والعرب والأجانب أن يرسموا لوحة مقارنة بين الحال في عهد صدام وحزب البعث وبين هذا العراق الجديد..”(صفحة67).
وفي موضع آخر، يتحدث العزيز عن المقابر الجماعية التي اتهم الرئيس صدام حسين بها في عهده، فيقول:”.. لا يستطيع أحد أن ينكر الحقيقة في أن الناس في العراق وطيلة أكثر من ثلاثين سنة تمتعوا بالأمن الكامل عدا فترة قصيرة في مواجهة الحرب مع إيران، وفي الفترات التي شنت فيها أمريكا الحرب أو الغارات الواسعة على العراق. وبرغم الصراعات السياسية التي قيل عنها الكثير، لم يحصل في العراق في عهد صدام حسين أن استيقظ العراقيون ليجدوا جثثا مرمية في الشوارع أو في المزابل بأعداد كبيرة تقول عنها السلطة بأنها مجهولة، مع العلم أنه لم يكن هناك في العراق شخص عراقي مجهول؛ فكل عراقي مسجل في دوائر الدولة وله هوية تتضمن اسمه وتاريخ ولادته ومكان سكنه.. إلخ من المعلومات الأساسية. وإذا حصل أن واحدا من هؤلاء المواطنين مات فجأة في الشارع بسكتة قلبية أو بحادث سير أو اغتيالا، كانت الشرطة تستطيع التعرف عليه خلال دقائق أو ساعات في أسوأ الأحوال. هكذا كان الحال في العراق قبل صدام وفي عهده طيلة أكثر من ثلاثين عاما. أما في العهد الجديد الذي جاء بعد صدام وحزب البعث، فإن العراقيين والسلطات الرسمية يجدون يوميا عشرات من الجثث لمواطنين عراقيين مرمية في الشوارع والمزابل، وتقوم السلطات بنقلها إلى ثلاجات الموتى من دون أن يعرف القتيل والقاتل. وبعد أسابيع وأشهر وعندما تمتلئ الثلاجات تنقل الجثث إلى مقبرة في كربلاء لتدفن في مقبرة جماعية هي من أكبر المقابر الجماعية في العراق الذي يدّعي فرسان العهد الجديد أنه كان مليئا بالمقابر الجماعية في عهد صدام وحزب البعث..”.(صفحة9-8).
جيف آرتشر(مالكوم لاغوش)، الصحفي والمحلل السياسي الأمريكي البارز، يطرح أسئلة كثيرة، ويسأل: لماذا لا يجيب أحد عن هذه الأسئلة، وإنما يركّز العالم على أمر واحد هو دكتاتورية صدام حسين وقضية الدجيل التي ضخّمت مع أن بوش أصدر أحكاما بالإعدام عندما كان حاكما لتكساس، تفوق بكثير الأحكام التي أصدرتها محكمة العراق عام 1984 بحق المتهمين.. ومن هذه الأسئلة التي طرحها جيف آرتشر: لماذا لا نسمع ما قالته نيويورك تايمز عام1987 من أن العراق هو باريس الشرق الأوسط، لماذا لا نسمع عن زيارات صدام حسين إلى بيوت العراقيين في جنوبي العراق في السبعينيات ليتأكد من أن كل بيت يملك برّادا وكهرباء، لماذا لا نسمع عن المبادرات العديدة التي قدمت لصدام في التسعينيات من المصادر الأمريكية لكي يعترف ب”إسرائيل”، وأن يسمح للولايات المتحدة بإقامة قواعد عسكرية في العراق مقابل رفع الحصار عنه…إلخ. (من مقالته”الشهيد الحيّ”). ويفند في مقالته(مرة بعد أخرى يثبت للعراقيين أن صدام هو الأفضل) والتي نشرها على موقعه الإلكتروني، يفند أكاذيب أمريكا التي روجت لها لتشويه صورة الرئيس صدام حسين وتبرير غزوها للعراق( في عام 2003 أعلنت أمريكا أنها وجدت مقبرة جماعية في جنوبي العراق تحوي رفات أربعمائة ألف عراقي. لكن توني بلير قال لاحقا بأن الرقم لا يتجاوز خمسة آلاف، ومعظمهم كانوا جنودا قتلتهم الولايات المتحدة عام 1991 في عاصفة الصحراء).
ترحل أيها الشهيد طارق عزيز، تاركا خلفك وهج عطائك النقي، وعبق تاريخ مجيد، واسماً محفوراً في جبين الزمان الجميل، ذاك الزمان.. ليذكرنا دائما بعزيز ما ذل يوما، وبقي رأسه مرفوعا رغم كل عذابات السجون والأمراض.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى