يستحيل اعادة عقارب الساعة الاردنية الى الوراء

صديقك من نهاك، وعدوك من اغراك
(الامام علي)

ما اظلم المرء لنفسه واضيعه لمصلحته وابعده عن جادة الصواب، حين تتهيأ الفرص فلا يقتنصها، وتهب الرياح فلا يغتنمها، وتنضج الثمار فلا يقطفها، وتتوفر اسباب النجاح والفلاح فلا يأخذ بها ولا يُقبل عليها.
ما اشقى المرء واشد ندمه واسوأ عاقبته وخاتمته، حين لا يتعظ بغيره، ولا يتعلم من تجربته، ولا يستمع لغير صوته، ولا يستخلص العبر والدروس مما وقع لآخرين كانوا في مثل وضعه ثم ما لبثوا ان اصبحوا اثراً بعد عين، وسطراً في دفاتر الفعل الماضي.
ما اتعس حليمة حين ترجع الى عادتها القديمة، وتستأنف ما سبق لها من مسالك وممارسات، وتحاول حرق المراحل ومحو الفواصل الزمنية، شأنها في ذلك شأن اسرة البوربون الملكية الفرنسية التي قيل فيها ”انها لم تنس شيئاً، ولم تتعلم شيئا”، ذلك لانها لم تدرك جيداً ان الماضي لن يعود، وان زمن اول قد حوّل، وان المارد الذي انطلق من القمقم لا يمكن ان يؤوب اليه.
في ذروة عاصفة ”الربيع العربي” التي سرعان ما تحولت الى لعنة تقطر دماً وتلطخ جبين المرحلة، وتنشر الفوضى في ربوع الوطن العربي.. احتكم الاردنيون للعقل، واعتصموا بالحل الوسط، وتمسكوا بروح المسؤولية الوطنية، وابتعدوا عن لعبة العنف والتطرف والغاء الآخر.. فلا الحراك الشعبي الذي ملأ كل الساحات طالب باسقاط النظام، ولا النظام الذي ارتعدت فرائصه اطلق الرصاص على المتظاهرين وتجاوز الخطوط الحمراء.
لقد نجح الوطن الاردني في امتحان ”الربيع الفظيع”، وخرج سالماً من عواصفه التي اطاحت انظمة ودمرت دولاً واوطاناً عربية غالية.. ورغم ان الاصلاحات والتنازلات التي قدمها نظام الحكم كانت جزئية وتجميلية مفرغة من المضامين الجوهرية، الا ان الحراك الشعبي لم يعمد للرفض والتصعيد، بل خلد الى الهدوء والمهادنة، ليس خوفاً وتقاعساً كما يتوهم المرجفون، بل حرصاً على الصالح الوطني العام، بعدما ذاب الثلج وبان المرج، واتضح للعموم ان الثورات والانتفاضات ”الربيعية” لم تصب في بساتين الحرية والديموقراطية، وانما صبت في طواحين الجماعات الاخوانية والوهابية والداعشية.
”ازمة البديل” هي النقيصة الاولى ونقطة الضعف المركزية في فعاليات ”الربيع العربي”، نظراً لانه لم يقدم البديل الافضل، ولم ينشئ انظمة محترمة على انقاض الانظمة القديمة، ولم يستنهض القوى الثورية لخوض غمار المستقبل المشرق، بل اسلم امره للمتأسلمين المتخلفين الذين قادوا قطار الامة الى الخلف، وعادوا به الى زمن ”الفتنة الكبرى” التي انجبت فيما بعد دواهي التعصب والتمذهب والاقتتال الطائفي.
بفطرتهم الوطنية الاصيلة وتجربتهم السياسية الغنية، احجم الاردنيون عن الانزلاق الى سفوح المغامرة، والسعي لاستبدال نظام مدني معروف لديهم بآخر اخواني مبهم ومبني للمجهول، وكأن لسان حالهم يردد المثل الشعبي الدارج : ”وجه عرفته خير من وجه لا تعرفه”.. فرغم كل ملاحظات الاردنيين على نظام حكمهم، وانتقاداتهم لسياساته وممارساته، الا انه يظل – في نظرهم- ارقى واسلس وابعد عن لعبة الدم من الانظمة المتأسلمة والمتأخونة التي تسلمت زمام السلطة في مصر وتونس وليبيا والسودان، وتفوقت على نفسها في افانين الجهل والقتل والفشل.
مؤكد ان هذا الموقف الشعبي من نظام الحكم قد شكل العامل الحاسم والاساس في انقاذ الحمى الاردني من غائلة ”الربيع العربي”، ووصول سفينته الى بر الامان.. اما العوامل الاخرى من امنية او اقليمية او دولية، فليست سوى عوامل جانبية مساعدة فقط، وقد ثبت عقمها وفشلها في نجدة حسني مبارك، الكنز الاستراتيجي لاسرائيل والحليف الوثيق للسعودية، او في انقاذ معمر القذافي الذي كان قد اشترى معظم رؤساء الدول الاوروبية، وسلّم برنامجه النووي كاملاً للولايات المتحدة.
ليت شعري، كم توهم حسني مبارك، او زين العابدين بن علي، او علي عبدالله صالح، ان جبروت اجهزته الامنية القامعة للحرية، وعمق ولائه وخدمته للمشاريع والسياسات الامريكية، ومتانة تحالفه مع الدولة العبرية وضخامة دوره في ضمانها وامانها، كفيلة بحمايته من شعبه، وادامته في كرسي الحكم، واطلاق يده لاقتراف ما يحلو له من فساد واستبداد.. غير ان واقع الحال لم يلبث ان بدد كل هذه الاوهام والآمال، واثبت ان الشعب وحده هو صاحب الكلمة العليا والقول الفصل، لان ارادته من ارادة الله..وفق ما قال جمال عبدالناصر منذ نصف قرن.
ليت شعري، كم اتعب ”المحللون الاستراتيجيون” انفسهم وارهقوا قرائحهم ومواهبهم، وهم يحددون ويعددون اسباب استتباب الامن الاردني ونجاته من فتنة ”الربيع العربي”، ويعزونها الى عوامل خارجية وترتيبات دولية واقليمية.. زاعمين ان صون الامن الاردني يندرج في اطار منظومة الحفاظ على الامن الاسرائيلي، ويأتي على سبيل الجائزة او المكافأة التي تقدمها امريكا للممالك والمشيخات العربية الدائرة في فلكها.. مع ان العكس هو الصحيح على طول الخط، فلولا وحدة الصف الاردني، وتلاحم القوى الشعبية، ومتانة الجبهة الداخلية، ويقظة القوات المسلحة والاجهزة الامنية، وتعاظم الاحساس لدى الجميع بواجب الدفاع عن الوطن في مواجهة المخاطر الراهنة.. لما تحققت معجزة الصمود الاردني، ولما اكترثت بنا او التفتت الينا امريكا واوروبا واسرائيل.
من قاموس الروعة والعظمة، انبثق قبل بضعة اشهر فقط مشهد وطني اردني ساطع لفت انظار العالم، واوضح حجم التكاتف والتضافر بين الجانبين الرسمي والشعبي في رفض واستنكار الجريمة الداعشية الآثمة باغتيال الشهيد معاذ الكساسبة، واثبت ان الاردنيين ما زالوا يؤدون ”صلاة الجماعة” في محراب الوحدة الوطنية، ويصطفون على قلب رجل واحد حين تشتد الخطوب، ويثقون ويتعلقون بقيادتهم عندما تشبههم وتعبر عنهم وتقترب من همومهم وطموحاتهم.
وعليه.. لماذا يريد حكامنا وحكوماتنا تبديد هذه الحالة الوطنية التوافقية، وتجديد عناصر الخلاف والاختلاف بين القمة الرسمية والقاعدة الشعبية، واعادة عقارب الساعة الى ما كانت عليه قبل حراك ”الربيع العربي” ؟؟
هذا هو سؤال المرحلة الذي يجول في ضمائر، ويتردد على السنة ملايين الاردنيين، وهم يشاهدون يوماً بعد يوم عودة تدريجية في صنع القرارات ورسم السياسات وعقد التحالفات وتشكيل وترحيل الحكومات الى المربع الاول والزمن العرفي البائد، رغم كل الحبر المهدور والكلام المزعوم لجهة التغني بالاصلاحات السياسية والحكومات البرلمانية والتعديلات الدستورية والتحولات الديموقراطية.. الخ
هذا الرجوع او التراجع التدريجي المتواصل يشي بان الطبقة الحاكمة قد اغترت بجديد اوضاعها، وندمت على التنازلات المحدودة التي قدمتها، وسارعت الى استرداد الصلاحيات القليلة التي فقدتها، وعمدت لاشهار العصا واظهار العين الحمراء بدل تقديم الجزرة وتحبيذ المسايرة، واحتكمت الى ذهنية عقابية وانقلابية تستهدف تصفية الحساب مع قوى وجماهير الحراك الشعبي التي ارعبتها وارغمتها على التظاهر بالنزول عند ارادة الشعب الثائر، والاطاحة باحدى الحكومات، والتعتيم على بعض الوجوه والشخصيات، والانخراط في ورشة واسعة من المحاورات والمناظرات والتعهدات الاصلاحية والانفتاحية التي اتضح فيما بعد انها كانت زائفة فعلياً، وهادفة فقط لتخدير الناس وشراء الوقت، وتحين الفرص لاعادة المياه الى مجاريها.
قاتل الله سائر ”الخبراء والمخططين المقربين” الذين يشجعون الطبقة الحاكمة على استئناف النهج العرفي والعبثي الذي تجاوزته الايام، واكل الدهر عليه وشرب، واحالته الشعوب الى التقاعد والانزواء في المخازن والمتاحف الاثرية.. وليس من شك ان الزمان لو عاد بالحكام العرب الذين خلعتهم الانتفاضات الشعبية بالامس القريب، لما فكر واحد منهم في اعادة انتاج حكمه القديم، او انتهاج ذات المسالك والسياسات السابقة، او استدعاء جرابيع الفساد والنفاق والغواية الذين كانوا يتحلقون من حوله، ويزينون له الاخطاء ويقدمون النصائح المغشوشة التي من شأنها سحق شعبيته ومحق مصداقيته وعزله عن الواقع.
كان المأمول، بل المطللوب، من اهل الحكم الذين انقذتهم الاقدار من مصير اقرانهم المخلوعين، ان يقرأوا صفحات الواقع بعدسات مكبرة وعيون مفتوحة، وان يختاروا الجانب الصائب والصحيح من المسار التاريخي، وان ينبذوا الاساليب والادوات والآليات القديمة والعقيمة في صنع القرارات، وان يغادروا العقلية الاحتكارية والاستعلائية والاستفزازية التي تثير حنق المواطنين ونقمتهم، وان يبادروا – بالمقابل – الى اشاعة اجواء التراضي والتوافق والمصالحة والمشاورة والمشاركة الشعبية في مشروع تنموي ونهضوي طموح يستقطب الاهتمام العام، ويحفز طاقات الشباب، ويجدد حيوية الطبقة الوسطى، ويعزز ثقافة الحداثة والتسامح والانفتاح، ويوطد تماسك النسيج الاجتماعي في مواجهة العنف والتطرف والافكار الداعشية والتكفيرية التي تجتاح المنطقة باسرها.
كان المفترض والمنتظر ان تحفر فظائع ”الربيع العربي” عميقاً في اذهان الحكام المحظوظين بنجاتهم من السقوط، وتحملهم على التوقف مطولاً امام خارطة الوقائع والفجائع العربية الراهنة، وتولد لديهم فيضاً من القناعات الذاتية والدوافع الوقائية والمبادرات الطوعية لتلبية شروط المرحلة في التغيير والتطوير والتجاوب مع الرغبات والمتطلبات الشعبية، بل استباقها بغية تعهدها بالرعاية والتأطير والترشيد والتوجيه لما فيه خير الوطن وامنه وازدهاره، ولما يبعده عن كل مكروه.
مؤسف، بل مخيف، ان نعود مرة اخرى الى تجريب المجرب وتكرار المكرر واجترار المجتر، وان نقف من جديد امام موجة ثورية واحتجاجية تتجمع امام اعيننا نُذر ومؤشرات اندلاعها في اي وقت.. وكم صدق الحق جل وعلا اذ قال ”فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”، صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى