المناضل ألأممي الكبير الدكتور يعقوب زيادين ليس شخصا عاديا في تاريخ السياسة الأردنية ، فهو علامة نضالية فارقة ، وقيمة رمزية وكفاحية كبيرة لا تعوض في زمن قلت فيه الرموز والقيم الكبيرة ، ولا شك أن رحيله المفجع قد أبكى القلوب قبل العيون ، وافتقده كل إنسان في هذا الوطن العربي الكبير يؤمن بالقيم الإنسانية الرفيعة وأهمها العدالة الاجتماعية بين البشر .وفي الأردن الذي انطلقت منه صولات وجولات يعقوب زيادين بشكل خاص افتقده كل من يناضل لأجل هذا الوطن وتقدمه.
منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي وحتى رحيله المفجع لم يتغير أبو خليل ويتبدل كما تغير الكثيرون وتبدلوا ، وبقي مؤمنا بالماركسية اللينينية كنهج حياة ومستقبل ،وكان الشيوعي المحافظ على قيمه ونهجه ، لم تهزه المتغيرات التي جرت على الساحة الدولية وانهيار الاتحاد السوفيتي دولة العمال الأولى، بل وكان فقيدنا الكبير من الذين انتقدوا جهارا ونهارا بعض تصرفات رجال السفارة السوفيتية في عمان وقد سمعت ذلك منه شخصيا، اذ أبلغ القيادة السوفيتية بأن هؤلاء الدبلوماسيين غير شيوعيين بتصرفاتهم وسلوكهم التي وصفها بالمسيئة للشيوعية ، هكذا كان مناضلنا الفقيد الكبير يعقوب زيادين قلبه على لسانه ولا يجامل أحدا في سبيل ما يؤمن به .
كثيرة جدا ولا تعد وتحتاج لمجلدات ولا نستطيع وصفها بهذا المقال المزايا الشخصية والإنسانية لفقيدنا الكبير الذي عرف ولقب بطبيب الفقراء منذ أن انتسب لهذه المهنة الإنسانية مطلع أربعينيات القرن الماضي مع انتمائه السياسي للحزب الشيوعي السوري، وهو من مؤسسي الحزب الشيوعي الأردني بعد ذلك ، حيث أعطى الصورة الحقيقية عن فكره السياسي الذي عكسه عمله على الأرض ، وهو من النماذج القليلة التي تجاوزت محيطها الوطني القطري نحو أمته العربية، وكان مناضلنا الكبير أبو خليل واضحا كالشمس بتقييمه للأحداث الجسام التي شهدتها الأمة العربية منذ أربعينيات القرن الماضي وأبرزها النكبة العربية الكبرى في فلسطين إلى النضال الوطني لتحرير الوطن من الهيمنة البريطانية والأمريكية بعد ذلك ، وكان فقيدنا الكبير من ابرز الرموز لتلك المرحلة المجيدة من تاريخ نضال أمتنا ووطننا .
وعانى فقيدنا الكبير من السجون والمطاردات والملاحقات والنفي والغربة كما كان له مواقفه الواضحة من حربي الخليج الأولى والثانية حيث كان ضد الحرب بين العراق وإيران، كما كان له مواقفه الرافض في اجتياح الكويت من قبل العراق، وكان السياسي الوحيد في الأردن الذي أعلن ذلك بوضوح وقد أثبتت الأيام صحة وجهة نظره ، كما كان على رأس كل حركة وطنية وقومية تطالب بالحرية والاستقلال وطرد الاستعمار في مرحلة ساهمت فيها مصر بقيادة جمال عبد الناصر بدعم كل حركات التحرر التي أدت في النهاية لطرد الاستعمار والكثير من سماسرته، وسهلت على صانع القرار في الأردن طرد المستعمر كلوب وضباط الصف الأول والثاني والثالث من الانجليز ، حيث كان لهم القول والفصل ، ووضع الوطن على أول الطريق الصحيح، وجرت بعد ذلك الانتخابات الأكثر نزاهة في تاريخ الأردن السياسي حيث أوصلت فقيدنا الكبير الدكتور يعقوب زيادين لقبة البرلمان نائبا عن مدينة القدس بعدما انتخبه أبناء القدس نائبا لهم في الوقت الذي لم يحالف الحظ الكثير من المناضلين من أبناء القدس نفسها ممن دافعوا بأرواحهم وأجسادهم عن أسوارها، وكان سبب هذا النجاح عدم وجود المال السياسي ولا النظرة القطرية الضيقة، ولا ما يسمى بالأصول والمنابت ، وهكذا وصل مناضلنا الكبير من قرية السماكية الوديعة الجميلة التابعة لمحافظة الكرك إلى القدس عاصمة الوطن العربي والعالمين الإسلامي والمسيحي الثقافية ، ذلك المجلس النيابي الذي جاء بحكومة الزعيم الناصري سليمان النابلسي رحمه الله رئيسا للوزراء بعد حصول حزبه الوطني الاشتراكي على ربع المقاعد وتحالف مع القوى التقدمية التي كان على رأسها فقيدنا الكبير أبا خليل ، وشكلت أول وآخر حكومة أردنية وطنية منتخبة حتى الآن ، وبعد ذلك للأسف جرى حل الحكومة والبرلمان وأصبح رئيسها تحت الإقامة الجبرية وفرضت الأحكام العرفية التي ما زالت مستمرة حتى اليوم وان خفت قيودها قليلا بحكم المتغيرات التي حدثت على كوكب الأرض .
كان مناضلنا الكبير من ابرز المطلوبين أمنيا في تلك الفترة المجيدة من نضال امتنا ووطننا حتى أصبحت معظم بيوت أهالي القدس الأبية بيتا ومأوى له ولرفاقه المطاردين أمنيا ، وبعد ذلك عانى من الاعتقالات التي استمرت سنوات طويلة وعندما خرج فقيدنا الكبير من السجن عام 1965م ، وجد ان الدنيا قد تغيرت وان العالم لم يبق كما عرفه حيث زادت نسبة الاستهلاك والاستيراد والدفع بالتقسيط كما ذكر في كتابه الشهير (البدايات).
وكان مناضلنا الكبير من أوائل المناضلين والسياسيين الذين تحدثوا بعمق عن بداية الخلل الاقتصادي والسياسي للمجتمع وعهد الاستهلاك الجديد على حساب الإنتاج ، ولم ييأس وكانت بوصلته التي يستمد منها قوته وإرادته هي شعبه وأمته ، لم يقاوم الرجعية السياسية والقمع الأمني في وطنه فقط بل قاوم الفساد والاستبداد والتغلغل الأجنبي من خلال التمويل الذي حمل عناوين إنسانية، وحافظ على المبادئ والقيم النبيلة والأصالة التي كانت من ابرز صفاته ومزاياه .
وعلى المستوى الشخصي أسجل بكل فخر واعتزاز بأن مناضلنا الكبير الذي عرفته عبر سنوات طويلة وكنت اتردد عليه في عيادته القديمة في وسط البلد وفي بيته ، وكان من القلائل الذين وقفوا لجانبي وقوفاً معنوياً بعد المحنة التي تعرضت لها في عملي ورزقي ولا زلت أذكر آخر لقاء جمعني به قبل ثلاثة أعوام في منزله العامر عندما دعاني مشكورا للقائه وبالفعل ذهبت إليه واستقبلني مع رفيقة عمره ونضاله المناضلة سلوى زيادين أم خليل وكيف كان يعتذر بأدب الكبار بأنه قصر معي في المحنة التي تعرضت لها ولا زلت أدفع ثمنها بسبب موقفي الذي افخر به وهو قيادة أكبر الاعتصامات العمالية التي شهدها الوطن وكانت في مؤسسة الموانئ في شهري حزيران يونيو وآب/ أغسطس 2009 ، حيث ظروفه الصحية كانت تمنعه من التحرك عمليا لأجل إعادتي إلى عملي وأخذ يعتذر بأن الجميع قصر معك في الوقت الذي دافعت أنت بكل شجاعة عن حقوق زملائك كما قال حرفيا، وكانت عفوية كلماته وتلقائيتها تتكلم بنفسها عن صدق تلك القيمة النضالية التي افتقدناها مؤخرا حيث فجعنا برحيلها عن عالمنا في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة لأمثاله من الرموز العظيمة في تاريخنا ، وبرحيله فقدت الساحة العربية والأردنية بشكل خاص أحد ابرز مناضليها في القرن العشرين واحد الرموز والقدوة لكل المناضلين والأحرار ، فقد ملأ الدنيا ضجيجا وكفاحا وضرب المثل الأعلى كيف يكون القائد المخلص الذي يتقدم الصفوف نحو النضال والكفاح وسط شعبه وأمته ، حتى وهو في الاعتقال كان فقيدنا الكبير القاسم المشترك لكل القوى الوطنية، وعن ذلك يقول النائب الاسلامي المعروف يوسف العظم رحمه الله ( بأن يعقوب زيادين كان يوقظنا ونحن في السجن لصلاة الفجر) .
وهكذا كان أبو خليل رفيقا ومحبا للجميع، وما يؤسف له أن رحيله جاء في أسوأ الظروف بعد أن ساهم وناضل وقاد في شبابه المبكر المقاومة ضد الاستعمار البريطاني والتبعية السياسية في وطنه لأمريكا وغيرها ، وبقي مخلصا لخط المقاومة الوطنية حتى آخر لحظة في حياته .
وهكذا برحيله جسدا اسدل الستار على مرحلة وعصر بأكمله كما نشعر أن روح أبا خليل الطاهرة ستبقى محلقة في سماء وطنه وأمته وسيبقى الحاضر الذي لا يغيب لأن المبادئ والقيم السامية لا تموت ويبقى ذكر أصحابها خالدا .
رحم الله الأخ والرفيق والصديق الدكتور يعقوب زيادين واسكنه فسيح جناته ، ونعزي أنفسنا وأسرته الصغيرة رفيقة دربه أم خليل وأبنائه وأحفاده ورفاقه ورفيقاته ومحبيه وكل من تشرف بمعرفة قيمة هذا الرمز الكبير، فقد كان وسيبقى مدرسة عظيمة للنضال وشعلة من الإخلاص والصدق لا تنتهي حتى بالموت .وطوبى لك .
في ذكرى رحيله الـ ٥٣ .. قراءة في حيثيات “العروة الوثقى” بين عبد الناصر وجماهير الشعب العربي
بعض الناس يشبهون الوطن، إن غابوا عنا شعرنا بالغربة (نجيب مح... إقرأ المقال