الأمن القومي العربي والتباساته الراهنة !!

على الرغم من الضرورات الضاغطة والتحديات الخطرة التي تواجه الأمة العربية والتي تلح إلحاحا كبيرا على ضرورة الحديث عن هذا الموضوع ووضعه أمام عقل الناس بطريقة استنهاضية وحافزة ، إلا أن هناك معيقات كثيرة تنتصب أمام هذا الحديث ومفاهيمه وصوره الجديدة ومنهج مقاربته وإمكانية تحقيقة في مثل الواقع السياسي الذي نحياه ، ذلك أننا نحيا الآن صورا حادة من التناقض والتشرذم في الواقع العربي تجعل مثل هذا الحديث يبدو نظرياً تجريدياً لا يمكن أن يجد له الأصداء المناسبة ولا يمكث في الأرض .
إلا أن التحديات التي تواجه الأمة في مرحلتها الراهنة تجعلنا دائماً أمام ضرورة طرح مثل هذه القضايا التي نرى أنها يمكن أن تحرك العقل القومي وتجعله يستعيد ويسترجع ويستظهر تلك اللحظات القليلة من الوعي القومي التي كانت تجعل من مثل هذه القضايا مسائل مصيرية وأساسية وبدهية في حياة العرب وتقدم ايحاءات دائمة بوحدة هذه الأمة ووحدة مصيرها وكيانها الذي يجب أن يصان ويبقى موحداً مهاب الجانب .
ولأن التغني بالماضي المعزول عن واقعنا الراهن واشكالياته ، أو المعاكس له في المعنى والمبنى لن يفيد إلا في إعادة ترتيل المقولات القومية العتيقة والرغبوية التي لا تنقذ واقعا ولا تصد عدوا ، ولأننا نعي تماما إمكانية أن نتهم بالهدر والهذر في هذا المقام ونحن نتعامل مع واقع عربي مختلف في الجوهر والمظهر ويحتاج الى مناهج ورؤى جديدة لفهمه وسبره ، فاننا نحاول دائما أن نحدق في الواقع القائم تحديق الساعي الى فهم جوهره وطرق اشتغاله وكيفية اختراقه وننأى عن التحديق العدمي والإعدامي الذي يقود الى اليأس والتشاؤم المديد والمعطّل .
ونسأل : كيف التفكير بالأمن القومي العربي والدول مستباحة ومشرذمة وتابعة في معظمها سواء لقوىً اقليمية أودولية وتعاني من اختلالات بنيوية خطيرة؟ وكيف يكون التفكير بالقضية والبلاد محتلة ومترعة بالقواعد والقوى الأجنبية ؟ وكيف يمكن التفكير بالقضية والعالم أصبح محاصر بالعولمة – الأمركة الهادمة والمتجاوزة للحدود وسيادة الدول والمفروضة بالإكراه على معظم دول العالم ؟ وكيف نفكربالقضية والدولة العربية لم تعد كما كانت قطرية وحسب وإنما هي تحولت الى دولة ملل ونحل وأقليات أو أصبحت مجالا تصنّع فيها الأقليات ويكتظ بالهويات الهجينة القاتلة ؟
إننا اذن أمام واقع مغاير لا يمكن مقاربته بأفكار عابرة وارتجالية كما قد يترآى للبعض وعلى غرار ما يجري الحديث عنه في القمم الرسمية العربية أحيانا، وفي بعض تجليات المخيال الشعبي المبتهل بالدعاء الى التوافق والانسجام بين العرب . وهذا الواقع الماثل أمامنا يعبر عن تحولات هائلة جرت فينا ومن حولنا ، وكنا في حالة قطيعة معها سواء في القراءة أو الفهم والتبصر ، ولذا أصبحت في أذهاننا أشباحا وسدودا ومساحات غامضة لا يمكن اختراقها وأقداراً لابد من القبول والرضوخ لمقتضياتها اذا لم نقل والتسبيح بحمدها .
ولذا فان الحديث عن الأمن القومي العربي في العقود الأخيرة وفي مرحلتنا الراهنة أصبح يحمل أثقالا هائلة ويوحي بالانسداد والاستحالة ويوميء بالانسحاق مع أننا لا نراه بكلّيته على هذا النحو ولا نرى استحالته أبدية في كل الأزمان ، وتاريخ الشعوب هو الأكثر إنباءً عن انقلابات وتحولات جرت في مداراتها مع أن الموات والانعدام والخروج من التاريخ كان محتماً لواقعها ويوحي بمصائرها ، إلا أنها استفاقت في لحظة ما من حياتها وأحدثت انعطافات هامة في تاريخها وعلى صعيد وجودها .
وما يتوفر للأمة العربية – حتى في واقعها الانحطاطي الراهن – يدفع الى بعض الأمل والتفاؤل بإمكانية الاستفاقة والتغيير في أي لحظة من لحظات التاريخ – بعد أن عاينت وشهدت اقطارها ألوانا من التمزق والتشرد والهوان- وذلك من خلال التمعن الواقعي العقلاني بلحظة العرب المشرذمة الراهنة ومآلاتها ، وبوجود مطالبات شعبية ملحة تطالب بضرورة وقف التراجع ووقف التمزق ، وبظهور تيارات وأصوات عربية قوية تسعى الى تأسيس استراتيجيات قومية تحدد التحديات بصورة عقلانية جديدة وواضحة، وتحدد الأولويات ، وتعاين الممكنات الموجودة على الأرض ، وتسعى الى وقف وإخماد الحروب الأهلية داخل الدول العربية ، وتخليق بيئة سياسية تصالحية تقوم على المكاشفة والمصارحة تمكن الجميع على الصعيدين الرسمي والشعبي من التفكير بكل التحديات التي تواجه الأمة، وتجعل مصيرها ومستقبلها في مهب الريح أوهي في مآلاتها النهائية سوف تجعل منها دولاً فاشلة لا قيمة ولا أهمية لها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى