تعرفت عليهم منتصف السبعينيات في بيت الراحل منيف الرزاز ( بهجت أبو غربية، رفعت عودة ، يعقوب زيادين ، عبد الرحمن شقير ، أمين شقير ، الشيخ عبد الحميد السائح ) ، استمعت إلى نقاشاتهم الفكرية والسياسية وراقبت اختلافهم وحوارهم المؤدب ، وكنت أتعلم منهم ، وأراهم معلمين وأساتذة في الحوار والوطنية مع تباين ثقافاتهم ومشاربهم السياسية.
كنت وقتها أشعر أن الاردن يفيض عروبة ووطنية ورجالاً ووعوداً بالحرية القادمة، كما كنت أرى الأردن بلدا تصاغ فيه وطنية وعروبة متعالية من نمط مختلف وينطوي على رمزيات وطنية مخبأة . وكان هؤلاء الذين ذكرت من تلك الرموز التي دافعت عن حرية البلد وتحرره وعروبته وتقدمه ، وتكبدوا جراء ذلك تشردا وسجناُ وإقصاءً بلغ أبعد مداه ، ولكنهم لم يهنوا ولم يحزنوا وبقوا في الميدان حتى عندما دخلوا مراحل الشيخوخة والتقدم في العمر ( القي ببعضهم في سجن الجفر عام 1976 بعد أن وقعوا عريضة بشأن أحداث لبنان وكانت أعمار بعضهم قد تجاوزت الستين).
وانتقل معظم من ذكرت من هؤلاء الرجال العظام الى الرفيق الأعلى ، وبدأت بعد رحيلهم أشعر بالفراغ وافتقاد مثل هذه النماذج الوطنية والمرجعيات الشريفة ذات الهمة العالية والعزم الوطني وإنكار الذات ، وكان ذلك تحولا من التحولات التي بدأت في بلدنا وعلى مستوى الوطن العربي ، اذ بدأت تهوي أشجار الغابة العالية وبتنا لا نرى إلا الأرض الخراب والنباتات الاصطناعية .
كنت كلما رحل أحد هؤلاء أشعر بهول الفراغ والفقدان ، وكنت أيضا أشعر بغياب وذبول الروحية والعقلية التي تعامل بها هؤلاء مع الحياة والسياسة والناس ، وأصبحت في كل حالة غياب في ضائقة فكرية – نفسية وأنا أعدّ هؤلاء ، من رحل ومن بقي ، واستشعر غياب الرجال الذين يسميهم الناس ” ملح الأرض ” أو ” ملحة البلاد ” .
كانوا رجالاً .. وكانوا أشجارا باسقة ، وكانوا رموزا على الرغم مما بدر منهم من اجتهادات أو ممارسات غير صحيحة ، ولكنهم كانوا دائما على الطريق ، وكانوا في صميم الحياة ، لم يخرجوا منها إلا عندما قضوا نحبهم وغابوا .
كنت أراقب يعقوب زيادين في بعض المناسبات وهو يجرّ هذا العمر الطويل المختلف فأزداد اقتناعاً بالطاقات الايجابية والرمزيات التي تدفعهم دائما لكي يكونوا داخل الحياة وقضاياها الكبرى ، وأن يبدأ حضورهم حتى وهم في حضرة الغياب .