مطلوب معركة فكرية دعوية لتجفيف مستنقعات التدعيش

أظهرت الحالة الرسمية والشعبية الأردنية في رد الفعل على جريمة اغتيال الأسير الطيار معاذ الكساسبة – الذي سقطت طائرته في منطقة الرقة شرق سوريا يوم 2014/12/24 – تكاتفا كبيرا بين الشارع والحكومة، ما كان ليحدث لو لم تسقط الطائرة، ويحدث ما حدث، وتتشرعن مشاركة الأردن في التحالف الدولي ضد داعش طلبا للثأر من همجية وبربرية هذا التنظيم التكفيري الذي يتجاوز في ممارساته كل التابوهات، والشرائع، واللوائح الإنسانية.
وبعكس ما خطط الدواعش أو هيئ لهم بأن حادثة أسر واغتيال ذلك الطيار ستثير الشارع ضد الحكومة ، فقد تولدت عن تلك العملية الإجرامية نتائج معاكسة هيأت الرأي العام الأردني لدعم أي تحرك أمني وعسكري ضد التنظيم.
بمعنى اخر ، فان طريقة الإغتيال الدموية البشعة أعفت القيادة الأردنية من حرج كبير، وحشدت معظم الرأي العام المحلي، إن لم يكن كله ، خلف مشاركتها في التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة للقضاء على الظاهرة التكفيرية المتشددة.
وهذا يعني أن الشارع الأردني قد وفر الغطاء اللازم لحرب مفتوحة على داعش، متقدما وسابقا القرار السياسي في هذا الإطار، ذلك إن مجازفة هذا اتنظيم المريض حيرت البيئة المتعاطفة أو التي قد تتعاطف معه أو مع من هم على شاكلته إلى الحسابات الرسمية، حيث أصبح الدواعش التنظيم في مواجهة الدولة الأردنية برمتها، بكل خبراتها وثقلها، وبغطاء شعبي قوامه جماهير متوحدة ومتراصة الصفوف، بصرف النظر عن التحالفات الإقليمية والدولية، أو الفئات التي تنقاد إلى أجندات وارتباطات تجعلها تغرد في العادة خارج السرب، وتظهر في مواجهة التكاتف الرسمي والشعبي خلاف ما تبطن.
ما لا شك فيه إن الشارع قبل عملية الإغتيال كان منقسما في موقفه تجاه المشاركة في التحالف الدولي ضد داعش، وان معارضي هذه المشاركة كانوا الأعلى صوتا، لكن الصورة تغيرت نتيجة الغباء وضيق الأفق الداعشي، وأصبحت الغالبية العظمى من الأردنيين بمختلف أطيافهم وألوانهم وأصولهم ومنابتهم تدعو إلى مشاركة فاعلة موجعة، وكان إن قررت القيادة نقل الحرب إلى معاقل داعش، وتسيدت الموقف عبارة ”الحرب حربنا” ، بدلا من سابقتها القائلة ” هذه الحرب ليست حربنا”، مع ملاحظة أن ذوي الطيار كانوا يرددون في بداية الأزمة هذه العبارة الرافضة والمنتقدة للمشاركة الأردنية في التحالف. ثم تحولوا بعد مصيبتهم إلى العبارة الاخرى التي تسيدت الموقف دون أن يبدو في الأفق أية مؤشرات حول كيفية أو الية تطورها، إذا نحينا جانبا غارات الطائرات المقاتلة الأردنية التي تدك جحور وسراديب ومخابئ التنظيم الظلامي المغرق في الإفك والضلال.
بعض المراقبين يقولون أن الغارات الجوية على مواقع التنظيم تأتي في سياق فورة الغضب والرغبة في تهدئة الشارع والرد السريع على تلك الفعلة الشنعاء التي لا يقدم عليها أي إنسان سوي متوازن العقل والحواس، ويلمحون إلى أن ” الرد القاسي المزلزل” الذي توعدت به القيادة تنظيم داعش، ستكون في صورة ” حرب برية” ، ويستشهدون على ذلك بالتصريحات التي أدلى بها النائب ماك ثورنبيري، رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي، وقال فيها إن الولايات المتحدة تبحث في الطلبات الأردنية للحصول على أسلحة ومعدات تلزم في الحرب على داعش، ودعا إلى تلبيتها بشكل عاجل، مع البحث في كيفية التصدي لهذا التنظيم.
في هذا السياق يستصعب المراقبون – جراء ردود الفعل الشعبية الغاضبة، وتصاعد الدعوات إلى الإنتقام من التنظيم- مناقشة الجوانب الإيجابية والسلبية لمثل هذه الخطوة ، مشيرين إلى أن مخاطر ذلك موجودة ولا يجب التقليل من شأنها أو القفز عنها، باعتبار أن الأردن سيكون في مواجهة تنظيم شرس وقوي يرابط قرب الحدود الأردنية، ولا تهمه خسارة الرأي العام أوكسبه، ولا يلتزم بأي قواعد للإشتباك ، في حين أن رأس مال الأردن هو أمنه واستقراره ووحدته الوطنية، ولذلك يجب النظر إلى الأمور من زاوية المصلحة، واجراء حسابات دقيقة بعيدا عن العواطف والنزعات الانتقامية، فثمة فرق بين دولة تمتد جذورها إلى مئة عام ، وتنظيم عصابي مافيوي مدعوم لوجستيا من قوى غايتها تفتيت المنطقة وتجزئتها بما يتوافق مع مصالحها واسترايجياتها.
ومن جانب اخر، يرى المراقبون أن المبررين لفظائع داعش هم من ارتكبوا جريمة اغتيال الطيار الكساسبة، فعلى الرغم من أن الداعشيين أخرجوا أحدث ما في جعبتهم من اجرام لا يخطر على بال الساديين والسيكوباتيين، ويتجاوز قدرة تحمل أكثر الناس عنفا وتطرفا، إلا أن الأمر الذي لا يمكن توقعه هو أن نجد من يتهرب من إدانة التنظيم بالإرهاب صراحة، أو أن نجد من يبرر لهؤلاء القتلة أفعالهم ويرفض وصمهم بالإرهاب.
بصريح العبارة إن الطائفيين والتكفيريين، والذين يوظفون الإسلام سياسيا لخدمة ارتباطاتهم وأجنداتهم، وكل الذين برروا ولا يزالون يبررون جرائم التشكيلات العصابية الإرهابية في سوريا والعراق ومصر واليمن والجزائرر وليبيا ولبنان هم شركاء في الجريمة، بل إن جريمتهم فيها أكبر بكثير من مسؤولية الذي قارف جريمة الإحراق، فلولا هؤلاء الذين يدّعون التديّن وامتلاك حقيقة الإسلام، ويتبجحون بأنهم دعاة ومنظرون وجهاديون ووو… لما ظهرت القاعدة وفرخت داعش والنصرة وباقي الإخوات الإرهابيات الاخريات اللواتي يحطب بعضهن في حبال الإسرائيليين جهارا نهارا.
على صعيد ذي صلة، يرى مراقبون أن الهدف من صناعة عصابة داعش من قبل أمريكا وحلفائها بمن فيهم الكيان الصهيوني، وبتسهيل من تركيا الأردوغانية، هو تشتيت وإضعاف الدول العربية من خلال استهداف أهم مؤسساتها وأقواها وهي الجيوش، بإعتبار أن هذا الإضعاف والاستهداف هو الذي يعبد الطريق لتمرير المخططات الإستعمارية، وسيطرة دولة الإحتلال على معظم دول الإقليم، لذلك لم يعد من المقبول أن تسكت الحكومات العربية على جرائم داعش ومن لف لفها، وتماديها في جرائمها الشاذة، وعمالتها القذرة مع أعداء الأمة، ولا بد أن تقوم الحكومات العربية بالتنسيق فيما بينها أمنيا وعسكريا ولوجستيا دون الإلتفات إلى المخططات الأمريكية التي ترفض إلى الان بلورة تحالف عسكري عربي مشترك يضم الدول المتضررة، بذرائع لم تعد تنطلي على أحد، فالتجارب على الأرض تفيد بأنه من غير التنسيق بين هذه الدول عسكريا وأمنيا لا يمكن هزيمة التطرف والأرهاب.
ويقول المراقبون أن التنسيق العسكري والأمني بين الدول المذكورة يجب أن يسبقه تنسيق اخر لا يقل أهمية عن الأول، وهو التنسيق من أجل معالجة الحواضن التي تعشش فيها داعش، وكذلك مكافحة الأصوات الشاذة التي تبرر لداعش جرائمها مستغلين الجوامع ووسائل الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني للترويج لهذا الفكر الظلامي القاتل.
محليا طوى المنظرون والناعقون أوراقهم، وكفوا عن ادعاء الحكمة وبذل النصائح في كيفية معالجة ملف الكساسبة قبل أن يرتقي إلى العلا شهيدا شاكيا ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ولم يعد من المجدي والمفيد الاستمرار محاولاتهم غير اللائقة في توظيف هذا الملف لحسابات داخلية واخرى إقليمية ودولية، من منطلق أن الكل يريد اهتبال الفرصة لرفع شعبيته أو للمزاودة أو إحراج الجانب الرسمي، ولاذ الجميع بالصمت بعد أن ضاعت أصواتهم ودعواتهم في خضم بحر الجماهير التي هبت لتعاضد وتؤازر أسرة الشهيد، عشيرة ورفاق سلاح ووطن، من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه.
الان… بات استئصال شأفة هذا التشكيل المافيوي العصابي هو المطلب العمومي على الصعيد المحلي، وقد تراجع شعار ليست حربنا لصالح نقيضه الداعي لشن الحرب باعتبارها حربنا، وهنا لا ضير أن تكون هذه الحرب في صورة طلعات جوية تلقي حممها على أهداف منتقاة ومرصودة استخباريا بدقة، أما مسألة الحرب البرية فلا نعتقد أنها من السهولة بمكان حتى لو كانت استباقية وفجائية فالجغرافيا والديموغرافيا والحسابات الإقليمية والإرتباطات الدولية كلها متاريس وعوائق يمكن أن تكلف الكثير من الجهد والوقت والمال والأرواح.
راهناً …”هي حربنا” ولكن الحرب المطلوبة اولاً وقبل كل شيء هي حرب فكرية ودعوية وتثقيفية تجفف مستنقعات التحشيش والتدعيش.. حرب أمنية تكسر رؤوس الأفاعي الراقدة في بيات شتوي مريب بإنتظار لحظة دفء لتفقس شرا وعنفا يستهدف الوطن بكل مقوماته ومؤسساته.
الحرب المطلوبة لا بد أن تكون غايتها تجفيف كل المنابع التي تجعل من الشباب فريسة سهلة يستقطبها الظلاميون والتكفيريون بسهولة، ولن يتأتى ذلك الا بشن الحرب على الفساد وفتح الملفات المسكوت عنها ومحاسبة اصحابها وجرهم إلى ساحات القضاء، وعلى البطالة والتهميش والمحسوبية والواسطة، ووقف التغول على جيوب الناس رسوما وضرائب مرهقة تجعل الحليم حيرانا.
متى فعلنا ذلك…. لن يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وستتراجع دون حدودنا كل الغربان والجرذان الظلامية المتصهينة، وستظل الربوع واحة أمن واستقرار تحميها وحدة وطنية مكينة وتحرسها قوات مسلحة ساهرة !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى