حين… ولم تزَلْ

أي حنين هذا الذي يستيقظ في غمرة الخراب ليطلّ من نوافذ الذكريات التي كانت.. والتي كانت.. وكانت من أجمل اللحظات.. الأيام.. السنين.. الانتظار.. حين جاءتني رسالتك يوما تحمل قصيدة لي.. خبأتها في أضلعي، وكنتَ أقرب إلى قلبي ووجداني من كل ما كان يحدث من أمور عصيبة. كنتَ في الزنزانة قامة شامخة، وكنتَ في المحكمة أسطورة تفوق كل ما حملته قصص الأساطير من بطولات وكبرياء وصمود. يا لتلك الأيام كم تركت في النفس جروحا يصعب أن تندمل بعد رحيلك. ثلاثة أعوام وأنا غارقة في أوراقك، أطبعها، أحررها ليخرج كتابا يليق بك ” صدام حسين من الزنزانة الأمريكية: هذا ما حدث ”.
تتقد الذكرى. ترجع بي إلى عام 1988 حين ذهبت لأرى أبي، وكان كعادته يجلس في غرفة المعيشة، لكن عينيه كانتا مليئتين بالدموع، كانت دموع الفرح. ناداني وقال: إنصاف، تعالي شاهدي لقد أعاد أبطال الجيش العراقي مدينة الفاو.. وكان ذلك في السابع عشر من نيسان حين حرر الجيش العراقي شبه جزيرة الفاو بعد احتلال دام عامين من قبل إيران. جلست بقربه ، وكنتُ أدرك ماذا يعني أن تبكي الرجال.. فرحا.. أو حزنا.. أن يبكي أبي الشامخ الذي لم أر في حياتي دموعه إلا حين رحل الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وحين غادرت بيت أهلي للزواج.
ورحل أبي بعد تحرير الفاو بشهر واحد . ومن هنا بدأت الأحزان تغزو حياتي وتفترسني بمخالبها الجارحة. وابتدأ العدوان الثلاثيني الغاشم على العراق في 17 كانون الثاني/يناير من عام 1991 لتفتح أبواب جهنم على العراق. واحترتُ، ماذا أكتب، وكيف أتحرك، وكان زوجي آنذاك وزيرا في الدولة الأردنية. كان علي أن أكتب رسالة إلى السيد الرئيس صدام حسين أعلن فيها ، أنا المواطنة العربية، أنني أقف معه ومع كل العراق، لكنها ليست أيّ رسالة. قضيت الليلة بكاملها وأنا أكتب بالريشة أغطها في وعاء مملوء بدمي ودم الطبيب الرائع القومي الذي خلط دمي بدمه لأكتب للرئيس صدام حسين، وأُوصلها في اليوم التالي للسفارة العراقية. وليغضب من يغضب. وتتابعت بعدها أحداث كثيرة مؤلمة.
ويأتي عام 2006 يا سيدي الرئيس، يا سيدي الشهيد، لأتابع المحاكمة المهزلة المعدة سلفا لاغتيالك. حين صحوت على الخبر الصاعق المفجع. كانت فجيعة ومأتم في بيتنا.
هل رحلتَ حقا؟ كيف وأنت حاضر في كل أزمنتي، على كل جدراني، في وجداني، في شراييني. لكن الحقيقة التي بقيت أننا عشنا زمنا جميلا معك، زمن الكبرياء والعز والشموخ، لنصل إلى حقيقة أخرى أن الأمة انهارت من بعدك، وتآمر عليها كل الخونة والأجراء والمتخاذلين وعملاء الاستعمار.
سيدي الشهيد.. لقد اغتالوك واقفا، شامخا.. و” الأشجار تموت واقفة”.
وسلام على روحك الطاهرة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى