خواطر في يوم ميلاد عبد الناصر الـ 97

بعدما نزل المحاضر عن المنصة، اقترب مني وهمس لي ” آمل ألا تكون تضايقت مني؟” وقصد بذلك كلامه عن فشل القومية العربية في المحاضرة التي قدمها، فأجبته على الفور “كلا، لكن ماذا عن تجربة عبد الناصر، هل يصح أن نضمها الى تجارب الزعماء الآخرين؟” فرفع يديه مستسلما ومعقبا ” عبد الناصر شيء آخر”.

كان هذا منطلقي في النقاش حول القومية العربية، في أحد المؤتمرات الفكرية التي شاركت بها مؤخرا، حيث عاد عدد من المحاضرين والباحثين الى ترداد مقولة “سقوط القومية العربية” و”فشل القومية العربية” و”اخفاق القومية العربية” وغيرها من المرادفات. ولم تعد تزعجني تلك الأقوال والمزاعم، لأنها باتت مستهلكة ولأن القومية على علاتها تبقى هي البوصلة.

نعم دخلت القومية العربية بحالة من الاخفاق والتراجع والنكوص.. لكن القومية العربية لم تمت، لأن الشعب العربي لم يمت. وما زال هناك ملايين العرب في أرجاء الوطن العربي وأنحاء العالم ممن يؤمنون بالقومية، رغم سقوط الأنظمة وانكسار القومية.. لأنهم يؤمنون بطريق عبد الناصر.

نعم جرى تشويه للقومية وتحوير لمفاهيمها واستغلال لنهجها، وتم استخدامها من قبل البعض لمصلحة الحاكم وليس لمصلحة الشعب، وانتهكت باسمها أعراض وكرامات.. وهذا غير مقتصر على الأنظمة الديكتاتورية أو “الحزبية” فحسب، فقط من أجل التذكير.. وكل الانحرافات لا تعني فشل القومية.. لأن هناك نهجا مميزا عرفناه وعايشناه ونتوق اليه، وهو نهج عبد الناصر.

كثيرون يقولون ويرددون أن القومية سقطت وفشلت وأخفقت.. وهنا يتجاهلون بمنهجية عن وعي أو غير وعي.. بأن القومية تعرضت لأبشع عدوان وترصدتها المخابرات الغربية ولاحقتها قوى الشر العالمي.. وكل ذلك عندما حمل لواءها ونشرها في الأرض العربية قائد كبير ومميز هو عبد الناصر.

لسنا من هواة نظرية المؤامرة، لكن هل ينكر أحد أنه جرت مؤامرات عديدة قادها الغرب، بأدوات تارة صهيونية وطورا عربية رجعية، من خلال أحلاف تآمرية باسم العروبة والاسلام، فقط من أجل ضرب مشروع القومية الساطع الذي وقف في مقدمته زعيم شامخ اسمه عبد الناصر.

اعتبر العديد من الدارسين والأكاديميين أن القومية قصم ظهرها وانتهت مع عدوان 1967 والهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية.. صحيح أن القومية العربية تعرضت لضربة موجعة وأليمة في ذلك العدوان الشرس الذي شاركت فيه أكبر قوة عسكرية في ذلك الوقت وتتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية.. لكن القومية لم تمت يومها، بل بدأت بالنهوض من تحت الركام مع برامج الاصلاح والتغيير، التي قام بها قائدها ورائدها الذي عاد الى القيادة والميدان بأمر الجماهير.. وكان من الممكن أن تسترد القومية عافيتها، كما استردت مصر القنال وسيناء وأن تعود الى الانتشار بتجدد، لولا أن القدر ومشيئة رب العالمين التي قضت برحيله، فخمدت القومية مع رائدها وقائدها الأخير في القرن العشرين.. جمال عبد الناصر.

القومية ظهرت قبل ثورة 23 يوليو بنصف قرن وأكثر، والقومية عاشت بعد غياب قائد الثورة بنص قرن وأقل، ورغم الفارق بين الحالتين إلا أن القومية العربية لم تسقط ولم تصل الى العدم. وهذا ما سبق وقاله لنا القائد والمعلم جمال عبد الناصر بأن القومية لن تموت بموت عبد الناصر، لأنها وجدت قبل عبد الناصر وستبقى بعد عبد الناصر.. ” والقوى المعادية لحركة  القومية العربية تحاول تصويرها دائما بأنها امبراطورية لعبد الناصر.. وليس ذلك صحيحا.” ورغم تراجع القومية وانتشار التكفير والتزمت والارهاب باسم الدين، إلا أن حقيقة تلك الحركات المشبوهة باتت واضحة، ولا طريق للأمة العربية، ولا خلاص لها ولا عودة لأمجادها إلا بالقومية، بقالب جديد يناسب عصرنا.. واذا كنا رضينا بامبراطور علينا، فلم يكن إلا هو الذي يستحق لأنه عبد الناصر.

استغلت حركة الاخوان المسلمين وشبيهاتها المعادية للقومية والناصرية، غياب القائد التاريخي وعملت على ازالة الحراسة عن قبره دون مراعاة لحرمة الموتى، علها تجد ما تأخذه على عبد الناصر فعادت خائبة مقهورة، لكنها لم تستسلم وواصلت افتراءاتها على القائد والزعيم، وخيل اليها أنها ربحت الحرب، لكن كانت المفاجأة القوية في ميدان التحرير، ومع اندلاع ثورة 25 يناير ضد نظام مبارك سيىء الصيت، أن عبد الناصر عاد للميدان صورة وأغنية وايقونة للثورة متجددة، بزنود الشباب وصوت الشباب الذين لم يعيشوا في زمن عبد الناصر، لكنهم عاشوا تحت ظل اسمه وما مثله من كرامة واستقامة، وانتصر عبد الناصر على كل حملات التشويه والتغييب، وبقي حاضرا، فالحضور يليق بشخصية فريدة ومخلصة لشعبها ومبادئها، ومنحازة لمطالب الشعب مثل شخصية عبد الناصر.

كثيرون من الحكام اعتلوا سدة الحكم، حكموا، تجبروا، سيطروا، أرغموا المنشدين والشعراء والملحنين على وضع أغان لهم.. امتلكوا العقارات، جمعوا الأموال، اشتروا القصور.. وبعد رحيلهم بانت مفاسدهم، انكشفت مباذلهم، انطفأت ذكراهم ونسيتهم شعوبهم.. لكن هناك زعيم واحد أوحد، تربع على عرش الشعب وما زال رغم الرحيل، امتلك محبة الناس وما دام رغم الغياب، بقيت الأغاني والأناشيد التي تحمل اسمه وثورته تتردد على الشفاه وفي القلوب وازداد انتشارها بين الناس رغم المنع والأوامر.. رحل فقيرا ماديا لكنه غني بالمحبة والتقدير والاحترام.. انه الزعيم الذي لا يشبهه أي زعيم والرئيس الذي لا يوازيه أي رئيس والقائد الذي لا يجاريه أي قائد.. انه عبد الناصر.

الشعراء ضمير الأمة والشعب، أحبوه من صميم القلب.. نظموا فيه القصائد، وكتبوا عنه بكل الحب..حتى الذين سجنهم واعتقلهم.. امتدحوه وترحموا على ايامه, فهذا أحمد فؤاد نجم يقول:

“وان كان جَرح قلبنا..

كل الجراح طابت”..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى