نحو مجتمع عربي موحد.. دور الاحزاب والحركات القومية

لا بد من التأكيد بداية، بأن المشروع القومي النهضوي والتحرري للأمة العربية، هو من يوحّد المجتمع العربي . وهكذا فإن وحدة مجتمعنا العربي تكون راسخة ومتينة عندما تكون الأمة في حالة نهوض على أساس مشروعها القومي الجامع، وتكون ضعيفة ومعرضة للانهيار، عندما ينحسر هذا المشروع، وإن ذلك هو ما أثبتته الوقائع التي عاشتها أمتنا في تاريخها المعاصر، إذ أنه في فترة صعود المشروع القومي التحرري والنهضوي الذي قاده عبد الناصر، عاش مجتمعنا العربي حالة غير مسبوقة من الاندماج والوحدة، حيث التفّت غالبية جماهير الأمة، حول الراية التي رفعها عبد الناصر، وفي تلك الفترة، تلاشت مظاهر التمييز بين مكونات المجتمع العربي الذي يتسم بالتعددية، وبقي هذا الوضع قائماً إلى أن حاقت الهزيمة بهذا المشروع تحت ضغط الهجمة الاستعمارية – الرجعية – التي شكلت حرب حزيران عام 1967 أبرز محطاتها . وتكرست الهزيمة لمشروع عبد الناصر، مع انتقال مصر بكل وزنها على يد السادات، إلى موقع الدول التابعة للمشروع الاستعماري الذي يشكل النقيض للمشروع القومي العربي النهضوي .

ونضيف هنا، بأن فكر النهضة الذي عبر عنه رواد حركة نهوض الأمة، وكذلك الفكر الذي طرحه رواد الحركة القومية التي على أساسها قامت الأحزاب و الحركات القومية، قد انطلق من مبدأ وحدة المجتمع العربي، ومن عدم التمييز بين فئات المجتمع الدينية والعرقية والطائفية والمذهبية، وإنه على هذا الأساس المتجاوز للنزعات الانغلاقية، جاء مشروع عبد الناصر الذي جسد الحلم الذي طرحه رواد حركة النهضة ومنظرو الفكرة القومية
وإزاء الفراغ الذي خلفه انحسار المشروع القومي النهضوي والتحرري والوحدوي، وبدعم مباشر وغير مباشر من قوى المشروع النقيض الاستعماري، صعدت التيارات الدينية المناهضة والمعادية للمشروع القومي، واستناداً إلى مبدأ الأكثرية التي تملك الحق في تحديد هوية الأمة والمجتمع انطلاقاً من أحادية مذهبية، وضعت هذه التيارات مجتمعنا العربي على طريق تنامي النزعات الانعزالية، بما أضعف مناعة مجتمعنا في مواجهة مشاريع الحلف الاستعماري، وعندما حل ما سمي بالربيع العربي، الذي نجم عن حالة الركود التي عاشها المجتمع في ظل غياب أفق النهوض، بدا المناخ ملائماً لتحقيق انتصار نهائي للمشروع الاستعماري في صيغته الجديدة، القائمة على أساس تجزئة المجزأ في وطننا العربي، وكانت الجماعات المتطرفة والتكفيرية التي ولدها الفكر الإقصائي والاستئصالي للتيارات الدينية، هي أداة الحلف الاستعماري – الرجعي، لإدخال بلداننا العربية في حالة من التدمير الذاتي، وفق مخطط الفوضى الخلاقة الذي اعتمدته الإدارات الأمريكية للوصول إلى إعادة رسم خارطة المنطقة .
وفي مواجهة هذا الواقع المعتم الذي تواجهه أمتنا العربية، يتطلع المنشغلون بهموم الأمة، إلى من في مقدورهم تغيير مسار الأحداث باتجاه نهوض الأمة، وبالتالي إلى من ظلوا على إخلاصهم للمشروع القومي النهضوي التحرري، ممن لم يفقدوا الثقة بانتصار هذا المشروع، وخاصة بعد تكشف عدم أهلية التيارات الأصولية الدينية ذات النزعة الفئوية الضيقة، والتي تقف خارج منطق التاريخ، عن تحقيق تطلعات الأمة نحو احتلال موقعها بين الأمم الفاعلة .
وحيث لا يملك أحد وصفة جاهزة تقود نحو إحداث حالة نهوض في محيطنا العربي، فإن ما يمكن طرحه، هو عناوين لمهام يفترض أن تكون شاغل الأحزاب والحركات القومية في المرحلة الراهنة، وذلك في إطار تهيئة الأجواء على المستويين الفكري والنضالي العملي، لانطلاق مشروع قومي نهضوي تحرري متجدد، يتصدى للمشروع الاستعماري، ويفتح الطريق أمام انتصارٍ تاريخي لمشروع نهوض الأمة .
وما نود طرحه في هذا المجال، نعرضه على النحو التالي :
أولاً- الدفاع عن فكرة المقاومة، التي باتت تشكل الرافعة للمشروع القومي التحرري والنهضوي للأمة، حيث تتعرض هذه الفكرة لحملة ممنهجة من التشويه من جانب المعسكر الاستعماري – الرجعي، فيما يتعرض محور المقاومة لهجمة استعمارية تستخدم فيها كما أسلفنا، الجماعات الإرهابية التكفيرية التي تجد بيئة حاضنة تحت تأثير الفكر الفئوي الإستئصالي للتيارات الأصولية .
ثانياً- التأكيد على فكرة المواطنة داخل مجتمعنا العربي وذلك في مواجهة النزعات الانعزالية التي نمت في ظل غياب المشروع القومي الجامع، وقد نشير هنا، إلى أن المجتمعات الأوروبية في مرحلة تقدمها نحو إنجاز نهضتها وتحقيق وحدتها القومية، اعتمدت مبدأ المواطنة الذي ينهي الشروخ في بنية المجتمع، والذي يحشَد طاقات المجتمع حول هدف واحد، وذلك قبل أن تتحول الدول القومية الأوروبية إلى الاستعمار، ليسود في مجتمعاتها الفكر العنصري الاستعلائي تجاه الآخر سواء خارج حدود أو داخل تلك المجتمعات .
ثالثاً- الاهتمام بمكانة المرأة، وذلك أن أي تمييز بحق المرأة داخل المجتمع، لابد وأن يولد ألواناً أخرى من التمييز بما يضعف وحدة المجتمع، ثم إن المرأة إضافة إلى دورها في دفع عجلة نهوض الأمة، لها دور بالغ الأهمية عندما لا تكون مهمشة، في تربية الأجيال على الثقافة التي تخدم مشروع النهضة والتحرر والوحدة .
رابعاً- التركيز على أهمية التنمية الاقتصادية – الاجتماعية، فما نعيشه من أزمة في مجتمعنا العربي وصلت إلى مرحلة التدمير الذاتي، يمكن رد أحد أسبابه الرئيسة، إلى الهوة التي اتسعت في العقود الأخيرة بين أصحاب الغنى والفقر، في ظل غياب مشروع متوازن للتنمية الاقتصادية، ومما لا ريب فيه، هو أن الطفرة النفطية، إضافة إلى جهود المراكز الرأسمالية ومؤسساتها العولمية، في إعادة هيكلة اقتصاد البلدان النامية، قد قادت نحو توسيع دائرة الفقر في تلك البلدان، وانتشار المجاعات في أرجاء واسعة منها .
خامساً- إبراز دور الإسلام كمكون أساس للهوية القومية، وإظهار النتائج الكارثية على واقع الأمة، حين يوضع الدين في تعارض مع القومية والوطنية، مشيرين إلى أن رواد الفكرة القومية، أبرزوا دور رسالة الإسلام والنبي العربي، في جمع شتات العرب وتحويلهم إلى أمة أسهمت بدور بالغ الأهمية في بناء حضارة الإنسان .
سادساً- إنتاج رواية موحدة لتاريخنا العربي تشكل الأساس لوحدة مجتمعنا ووحدة أمتنا، ويمكن هنا القول، بأن الوجود العربي قائم في هذه المنطقة منذ آلاف الأعوام، وأنه أقام العديد من الحضارات قبل مجيء الإسلام الذي أحدث طفرة تاريخية لجهة وحدة المجتمعات العربية، والانفتاح الذي عبر عنه الإسلام تجاه الديانات السماوية الأخرى، هو ما مكنه من بناء حضارة مزدهرة، كونه لم يزرع الانقسام بين مكونات المجتمع العربي كما يفعل الآن مدعو الحرص على الإسلام .
سابعاً- إعادة إنتاج الوعي العربي إزاء طبيعة المشروع الصهيوني، وإزاء خطورة الدور الذي تلعبه القاعدة الصهيونية في إطار المشروع الاستعماري الذي يشكل النقيض التاريخي لمشروع نهضة ووحدة الأمة . وكشف طبيعة الترابط بين المشروع الصهيوني وبين النظم والقوى الرجعية العربية، كون الجانبان يقومان على خدمة السياسات الاستعمارية الغربية في المنطقة .
ويبقى أن نقف في الختام عند بعض التوصيات والملاحظات في الجانب العملي، فيما يتعلق بدور الأحزاب والحركات القومية، فنؤكد بداية، بأن حالة النهوض في واقع الأمة، هي نتاج تراكمات كمية غير منظورة تسهم في إنتاجها القوى المعنية وهذا الفهم، يدفعنا لعدم الاستهانة بأي جهد من شانه أن يسهم في عملية التراكم التي تتحول في لحظة تاريخية ملائمة إلى تحول نوعي . ومما يمكن بذله من جهد في المرحلة الراهنة، هو تنشيط التواصل الحي وعن طريق وسائل التواصل الإلكترونية، مع الجماهير العربية، ولا سيما مع الأجيال الشابة، والاهتمام بدور الإعلام الذي بات يشكل جبهة الصراع المتقدمة مع المشروع الاستعماري، والبحث عن أساليب جديدة لتفعيل بل لإعادة إنتاج الأحزاب والحركات القومية وفق منظور تقدمي، والاهتمام بعقد اللقاءات والحوارات المنتجة التي تسهم في عملية التجديد.
إن ما يستهدفه الحلف الاستعماري في النهاية، هو إخراج هذه الأمة من التاريخ، لكن جذور هذه الأمة تبقى راسخة، وهي التي استطاعت الحفاظ على بقائها وأن تنهض مجدداً رغم ما عاشته على مدى قرون، من غياب حكمها لذاتها، ومن محاولات إخراجها من عروبتها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى