التأزم ظاهرة سياسية – اجتماعية لاحقتنا ولاحقت تاريخنا العربي منذ القدم ، فهي في مكنون حياتنا ، وجوهرا من جواهرها ، ونظاما ثابتا فيها ، وبنية راسخة في تكوينها ، وهي تتوالد على مدار الأعوام وتفرّخ في كل مرحلة تاريخية – سياسية عناصر تأزيمية – انقسامية جديدة سرعان ما تتكاثر مثل الهيدرا ذات الرؤوس المتعددة .
ولذا فلا عجب من الناحية التاريخية والفكرية أن ترانا نقف بين كل فينة تاريخية وأخرى أمام مظاهر وأنماط جديدة من التأزم ، حتى تبدأ مكابداتنا ومتاهاتنا في استكناه جوهر وعناصر التأزم ، ومعه يبدأ شقاءنا في كيفية ملاقاة هذا التأزم وادارته والخروج من مضاره وأخطاره وتبعاته وتداعياته .
وعندما نعطي للتأزم هذه الأبعاد والمعاني المتجذرة ، فاننا نمتثل لقراءة واعية وعميقة لحقائق التاريخ وقوانينه في القول بوجود التأزم في حياتنا كمركب أصيل وعميق ، ولكي تكون محاولتنا لتجاوز التأزم في الحياة العربية مشادة على معرفة عميقة بتاريخنا ، ولكي لانفصل ما يجري في الحاضر عن الماضي والغائب ، أو نجعل التاريخ مسارات متقطعة ( مع رغبتنا الحارّة في احداث قطيعة مع التأزم السياسي العربي ) ، وانما لكي نقول قولا واضحا ومفصحا يستحضر الصور والمشاهد والتباينات بأكملها ، فنكون بمواجهة الظاهرة وجذورها ومساراتها ، ونكون مطالبين بجواب تاريخي وليس بجواب خلّبي وعابر ومرحلي .
ولعل التطور “اللولبي – الحلزوني” لتاريخنا الذي كان في دواخل مساراته الانتهاض والهبوط ، الثورة والخمود ، النهضة والسقوط ، ما يمكن أن يعطينا فكرة ايجابية مضادة للعدمية والانعدام في مسارات تاريخنا وتجلياته السلبية والايجابية ، وبما ما من شأنه أن لا يسلمنا لليأس والاحباط المتجدد المديد ، أو يخلق لدينا الوسواس القهري بالاندثار .
لأن ما كان في تاريخنا الصاخب والمتناقض في الكثير من الأحيان ، ظهرت فيه قدرات على مواجهة الأزمات والتأزم ،وجرت فيه مواجهات للتحديات والنكبات ، وكانت فيه تنويعات لا تصب جميعها في منحى الاستسلام ، وقبول الفناء والموات التاريخي ، وانما كان فيه ارادة فائضة ومكابدة انسانية واجتماعية هائلة لم تجعلنا نستسلم حتى النهاية ، وبقي دربنا مفتوح دائما على المطالبة بالحرية والنهضة والتحرر والاستقلال .
ومثل ما نقوله عن بعض هذا الماضي المتعدد في مساراته ومعطياته ، نقوله الآن ونحن على مأدبة أو صفيح التاريخ الساخن المضطرب مجددا – مقهورين مغلوبين أمام البربريات المتعددة – بأننا الآن أمام طريقين وخيارين : ، فاما طريق للحياة والمقاومة يسر الصديق كما قال الشاعر ، واما تحد ومواجهة تغيض العدا وتلحق بهم الهزيمة ، ولكل طريق متطلبات وقدرات ، وأولها : الاستبصار وأخذ العبرة من تاريخنا الذي وصفناه بالمتعرج واللولبي ، وثانيها : المحافظة على أنساق هذا التاريخ وجوهره المقاوم المتحدي ، وبأنه في كل مواجهاته ولحظاته الصعبة لا يستسلم ولا يعطي قياده لأحد من البرابرة والدخلاء واللقطاء. وثالثها : عقد النية للضرورة وليس لاضاعة الوقت ، بأن تبدا الأمة ( كل دعاة وحدة العرب ونهضتهم ) حوارا نوعيا في كل المجالات من أجل تطويق بيئة الأزمة ، والخروج – من خلال فكر نهضوي مقاوم – من حالة التأزم والانسداد ، وذلك لا ولن يتم الا بارادة شعبية فائرة ومتألمة ، ترى أن الحوار الجدي المخلص حول شؤون الأمة وتحريك تاريخها بشكل ايجابي ، والانخراط في مواجهة التحديات هو فرض عين على كل عربي ، ووعي الأزمة بشكل عميق ، في جوهرها وعناصرها هو نصف حلها ، ولكن لكل ذلك تفاصيل ومفردات لا يتسع المقام هنا للتوسع فيها ، والأمر لابد ينطوي على العديد من الحقائق والتفكيرات الموضوعية البدئية التي يمكن الاستمرار في الحديث عنها ، بما يفتح الدروب ، و يؤسس لهذه الارادة ، واستنهاض الماهية المقاومة بمساهمة الجميع .
وأرجو على كل حال أن لا يؤخذ ما أقوله بهذا الاختزال باعتباره من صنف الانشاء والخطابة الصمّاء، اذ لا حق لكاتب في ذلك ، ونحن في مثل هذا التأزم ، وهذه المعاناة والكبد .