مبكراً.. ادرك عبد الناصر مخاطر الاسلام السياسي والفقه التكفيري

في مثل هذا الاوان منذ 44 عاماً وقعت الواقعة، واندلعت الفاجعة، ونزلت النازلة، ورحل عن دنيانا جمال عبدالناصر.. ترجل عن صهوة الحياة، واختار النزول تحت الارض، وارتأى الالتحاق بموكب الافذاذ والعظماء الذين سبقوه الى ديار الخلود، وسكنوا صفحات التاريخ.

نعم، لقد مات ”ابو خالد”.. تعطل قلبه وانطفأ عمره، وانطوت ايامه وحلّقت روحه في السماء، غير ان دوره لم يغب، وحضوره لم يخفت، وجمهوره لم يتبدد، ومكانته لم تهتز، ورسالته لم تنقطع، رغم الحرب العالمية الضارية التي استهدفته على مدار الساعة، وتناوشته بمختلف انواع الاسلحة السياسية والاعلامية والاستخبارية.

آية عبدالناصر ودليل عظمته وبرهان عملقته ومؤشر زعامته، انه قد تمكن، حتى بعد رحيله، من هزيمة اعدائه، وشل فجورهم ورد كيدهم الى نحورهم، ومواصلة دوره ومشوار عمره وسط اصعب الظروف، وحتى اذن الله باحقاق الحق وازهاق الباطل، وعودة مصر الى ذرى ناصريتها على يد الرئيس الواعد عبد الفتاح السيسي الذي يحاول استعادة مجد عبدالناصر، مثلما فعل فلاديمير بوتين وهو يحاول استعادة مجد فلاديمير لينين، وما فعل هوغو شافيز حين عمل على استعادة مجد سيمون بوليفار.

الموت لا يحجب عظمة العظماء، ولا يرسلهم الى مهاوي النسيان، ولا يمنعهم من البقاء على قيد الخلود، او الاسترسال في الاشعاع والالهام والهداية الى سواء السبيل.. وكم كان الشاعر العراقي الفذ مهدي الجواهري بليغاً ومبدعاً حين اعتبر، في رثاء عبدالناصر، ان الخالدين احياء في نظر شعوبهم ووجدان اممهم..

اكبرتُ يومكَ ان يكون رثاءَ                الخالدون حسبتهم احياءَ

أوَ يرزقونَ ؟ اجل وهذا رزقهم            صنو الخلودِ وجاهةً وثراءَ

يا ويح القلب، ويا لسوء حظ العرب، فاذا كان ”ابو خالد” قد انجز كل ما انجز، واحرز كل ما احرز، وهو لم يتجاوز سن الثانية والخمسين من العمر، فماذا كان يمكن له ان يحقق من الانجازات والانتصارات لو انه عاش لعشر سنوات او عشرين سنة اخرى ؟ وهل كان بمقدور الرجعيين والتكفيريين والمتأمركين والمتصهينين ان يعيثوا في بلاد العروبة كل هذا الفساد والدمار والارهاب؟ وهل كان من المعقول ان تفرز امتنا تنظيمات مشوهة مثل داعش والنصرة والقاعدة، او تنجب قيادات مهووسة وممسوسة مثل الظواهري والبغدادي والجولاني واللبواني؟

لقد كان عبدالناصر رباناً وعنواناً لهذه الامة.. كان عقلها وعزمها وقلبها النابض، ولا شك انها قد ابتعدت عن روحها واريحيتها حين ابتعدت عن مبادئه ومواقفه وميادين نضاله، ولا اخال انها قادرة على النهوض والخلاص وتقرير المصير وتدارك هذا الوضع المزري، الا باستعادة الوعي القومي والنهج الناصري والسير بخطى ثابتة على دروب الوحدة والحرية والاشتراكية وتحرير التراب العربي المغتصب.

ليس بالفتاوي تحيا الامم، ولا بالغيبيات تتقدم الشعوب، ولا بالفضائيات تتحقق الحريات، ولا بالمذابح ينتصر الاسلام والمسلمون، ولا بسواطير الدواعش الطاعنين في الهمجية تقام دولة الخلافة.. فلم يخبرنا التاريخ ان ابا بكر الصديق قد اوصى بالخلافة لابي بكر البغدادي، او ان عمرو بن العاص قد طلب من محمد بديع ”تأشيرة دخول” الى ارض الكنانة، او ان خالد بن الوليد قد استقوى بعبقريات يوسف القرضاوي لهزيمة جحافل الروم في معركة اليرموك، او ان عمر بن الخطاب قد استعار من ”خادم الحرمين” وقاموس الوهابية مقولته الذهبية : ”عدلتُ فامنتُ فنمت”.

ليست هذه الدواعش والدواهي الدموية حركات سياسية، ولا جماعات اصولية، ولا منظمات جهادية، ولا حتى قطعان بشرية، وانما هي طفح جلدي متقيح نفر على وجه الواقع الراهن ليشكل شاهداً على خيبة النظام العربي (بشقيه المتوهبن والمتصهين) في انتاج بدائل افضل من المشروع الناصري، او انتهاج طرائق انضج في مضمار القيادة والزعامة من نهج القيادة الناصرية التي وضعت العرب في مصاف ارقى الامم، وحرصت على استنفار اجمل وانبل ما في الذات العربية.

هذه الدواعش والدواهي لم تنبت في الفراغ، ولم تنطلق عشوائياً من العدم، بل وجدت قوى واجهزة وعواصم ترعاهم بالمال والفتاوي والسلاح.. وجدت بيئة بائسة مرزوءة بالفقر والامية والبطالة والجهالة والفساد والاستبداد والامراض النفسية.. وجدت كل ما من شأنه ان يسمّنها ويسعّرها وينفخ فيها حتى تحولت الى وباء جرثومي قاتل وشديد العدوى لا يختلف عن الكوليرا والطاعون وانفلونزا الخنازير.

نأسف لهذا التداعي في الافكار الذي تسلسل بنا من استذكار الزمن الناصري الجميل الى استحضار القبائح والمذابح الداعشية والوهابية التي تليق بعهود الانحطاط وحكام الظروف القاهرة والمصادفات الحمقاء والسلالات النجسة، بدءاً من صبيان المراهقة السياسية من آل ثاني وآل نهيان، ومروراً بباعة القدس وسماسرة النضال الفلسطيني من عينة عباس بن جساس ودحلان بن وحلان، وانتهاءً بديناصور الجزيرة العربية العم ”ابو متعب”.

”لم يكن عبدالناصر – يقول الاستاذ هيكل – دكتاتوراً لانه ليس بحاجة للدكتاتورية”.. نعم، لم يكن ”ابو خالد” مضطراً لارغام احد على محبته وتأييده والسير في ركابه والالتفاف من حوله، فقد اعطاه الشعب المصري اكثر مما اراد، وعشقته الجماهير العربية وتعلقت به حد الوله، وحظي مشروعه القومي التقدمي باوسع قاعدة شعبية عربية في التاريخ الحديث، ونالت اخلاقه الحميدة ومناقبه الرفيعة المتمثلة في النزاهة والطهارة والتقشف والتدين احترام وتقدير الخصوم قبل الاصدقاء، كما استلهم ثورته واقتدى بكفاحه الوطني التحرري معظم الثوار والضباط الاحرار في قارات آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية.

اما يوم رحيله الحزين، فقد شكلت جنازته التي غرقت في بحر من البشر ونهر من الدموع اوضح دليل على شعبيته الكاسحة، واكبر استفتاء عفوي على حجم الكاريزما التي كان يتمتع بها لدى ابناء شعبه المصري وامته العربية، والتي كانت تكفيه وتغنيه عن الحاجة الى الدكتاتورية والممارسات العرفية والتعسفية.

وها هو التاريخ قد جاء لينصف هذا الرجل بعد اربعة عقود من رحيله، وليشهد له انه كان الابعد نظراً، والاطهر ضميراً، والاجدر بحب الناس، والاقدر على قيادة الامة في اصعب الاوقات، والاعمق فهماً والاصوب موقفاً من كل خصومه ومناوئيه ومنافسيه السعوديين والساداتيين والشيوعيين والبعثيين والاخوان المسلمين الذين تولوا قيادة الامة العربية من بعده، فاوردوها موارد البوار والدمار، واوصلوها الى ما هي عليه في الوقت الحاضر، وهيأوها للمزيد من الكوارث والنكبات والانقسامات غداً وبعد الغد.

كان عبد الناصر خادماً وملهماً لشعبه لا حاكماً ظالماً له.. كان زعيماً حميماً وعظيماً لامته لا طاغية مستبداً بها ومتسلطاً عليها.. كان سابقاً لعصره وشاخصاً صوب المستقبل لا قابعاً في تكايا الدراويش وحراس الزمن الغابر.. ويكفيه فخراً وجهبذة وحنكة وصفاء رؤية وسداد رأي، انه قد اكتشف زيف الاخوان المسلمين في وقت مبكر، وحال ببسالة فائقة دون تسلمهم زمام الحكم في مصر، لا لانهم يفتقرون للخيال السياسي والاهلية القيادية والكفاءة الادارية فحسب، ولكن لانهم ايضاً غادرون وماكرون وناكثون للعهود واصحاب اجندات شريرة مكرسة لمحاربة العاطفة الوطنية والهوية العربية والعدالة الاجتماعية والتعددية الدينية والمذهبية والفكرية عموماً.

منذ نصف قرن ادرك ”ابو خالد” بثاقب بصيرته الاستراتيجية البعيدة المدى مخاطر الاسلام السياسي، وتنبه الى عواقب الدعوات التكفيرية التي اطلقها آنذاك القيادي الاخواني سيد قطب، ووصم فيها المجتمعات العربية كافة ”بالجاهلية”، ولم يتردد ”ابو خالد” في التصدي الحازم والصارم لبواكير هذه الرياح السوداء، ليس عن طريق الشدة والقمع والملاحقة الامنية فقط، ولكن عبر طرح البديل الارقى او النموذج النقيض المتمثل في المشروع التنموي والتعبوي والحضاري الناصري.. ولكن بئس ما فعل فيما بعد المرتد انور السادات.

رحم الله ”ابا خالد” فقد انكره المارقون وانصفه التاريخ، وكفى بالتاريخ شاهداً ومؤيداً ونصيراً !!

 

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. اصدق واجمل مقالات الاستاذ فهد الريماوي تلك التي يستذكر فيها مناقب الزعيم الخالد جمال عبدالناصر ، وجميع مقالاته الاخرى ذات النفس القومي تشد القارىء الى متابعة ما تنشره صحيفة المجد الغراء من مواضيع ، ولكن المأخذ على الاستاذ الريماوي انه لم يتعرض للنظام الايراني او السوري او المصري بشيء ، في حين انه لاينزل عن حصانه في مطاردة دول الخليج حبذا لو تكون جميع المواضيع متساوية وان يكون الانصاف هو الحكم في جميع ماتكتب وما تنشره المجد مع بالغ الشكر .

  2. الامر لايخفى على احد ان دول النفط مولت النظام المصري بمليارات الدولارات هل كان ذلك لسواد عيون المصريين ياترى؟ ام دعما للرئيس غير المنتخب ؟ لم نقرأ عن شيء في هذا الخصوص للاستاذ الريماوي ، خاصة وان المنافقين الصقوا به صفات الزعيم الخالد جمال عبدالناصر زورا وبهتانا ، اين الثرى من الثريا ؟ مطلوب رأي الاستاذ الريماوي عن العلاقة بين النظام المصري ودول النفط بدون انحياز .

  3. الى استاذ الاجيال فهد الريماوي منذ زمن بعيد وانا اتابع جريدتكم الموقرة المجد التي تعبر فعلا عن ضمير الانسان العربي منذ صدور اول عدد وحتى الان وهي الجريدة التي تستحق ارفع الاوسمة لكونها خاضت كل معارك الدفاع عن الامة العربية وفارسها النبيل الرئيس الخالد عبد الناصر ومازالت في مقدمة الصفوف تحارب قوى الردة والعمالة والخيانة وتفضح الدورالمشبوة لحكام الخليج المتصهينين تمهيدا لعودة الروح الناصرية لهذة الامة فما يجري من احداث في المنطقة العربية كشف طبيعة الاسلام السياسي ودورة في خدمة القوى الاستعمارية وهذا يمهد لمرحلة افول هذا التيار وعودة الى المبادئ التي نادى بها الزعيم الخالدعبد الناصر وانتم اليوم في جريد ة المجد تمثلون القنديل التوهج لاضاءة الطريق للاجيال القادمة لتصل الى المرحلة الثورية التحررية الحقيقية التي سترفع راية الكفاح الحقيقي وتمهد لانتصارات قوى التحرر على قوى الردة والاستعمار

زر الذهاب إلى الأعلى