في رثاء المفكر الوحدوي.. نديم البيطار

أيها المعلم والمناضل الكبير نديم البيطار يا فقيد العروبة والوطن.. ماذا أقول عنك كي أكون منصفا في رثائك؟

من أين أبدأ؟ وكيف؟
لقد قلت لي منذ فترة قصيرة أنك ستموت قبل أن تشهد في حياتك قطرا عربيا واحدا يتحد مع قطر عربي آخر! ولسوء حظك وحظنا أن أقطارا عربية عدة لم تتكرس التجزئة بينها فحسب بل يهددها التمزق أو التفتت الداخلي!
ان النخب الحاكمة العربية التي وصلت إلى الحكم باسم الوحدة والتحرير وعلقنا عليها آمالا عظيمة أفلست منذ زمن طويل. لقد وَعَدتنا بالحرية لكنها حولت الوطن كله إلى سجن كبير. وَوَعَدَتنا بالرخاء فعممت الفقر. وَوَعَدَتنا بالوحدة لكنها كرست التجزئة والانفصال حفاظا على امتيازاتها الخاصة إلى أن وصلنا إلى حد استنجاد بل استجداء الإمبريالية الأمريكية كي تحمينا منها ومن الأصوليين! إنهم الأصوليون، الذين منعوك من إلقاء محاضرتك في بغداد سنة 1968 لأنكم دعوتم فيها العرب إلى تبني فكر أو عقل حديث، هؤلاء الأصوليون ذاتهم يهددون وجودنا اليوم!
ماذا أقول عنك في سطور قليلة أيها المعلم العظيم كي أكون منصفا في رثائك وأنت من كرس حياته طوال أكثر من ستين عاما لخلق مشروع نهضوي عربي جديد يقوم على أساس علمي حديث. عن إي كتبك التي تتجاوز ال 20 كتابا أريد أن أتحدث؟
”إن المجتمع الحديث يستمد قوته وحيويته من إيديولوجية حديثة. وبالمثل يعود عجز المجتمع العربي التقليدي الحالي وضعفه وجموده إلى التزامه بإيديولوجية تقليدية استنزفت قواها وتجاوزتها حركة التاريخ منذ زمن بعيد. إن المشكلة الرئيسة التي تعاني منها المجتمعات العربية تتمثل في افتقارها لعقل حديث يُستمد من فلسفة حياة، أو إيديولوجية جديدة تتناسب مع المرحلة التاريخية المعاصرة،” وفق رأي البيطار.
لقد كرس نديم البيطار حياته لتقديم فكر علمي خصب تميز بالشمولية والعمق والأصالة لتجديد الفكر والمجتمع العربيين، بل ولتجديد العلوم الاجتماعية وفلسفة التاريخ بشكل عام من خلال دراساته القيّمة في سيكولوجية الهزائم العربية، والاقتصاد السياسي، والتنمية، والوحدة. إن الأنماط المنتظمة إذا لم نشأ أن نسميها قوانين، التي قدمها البيطار في دراساته، تصدق على عدد كبير من الأوضاع التاريخية المتباعدة في المكان والزمان ما جعل أعماله فريدة في أهميتها للعمل السياسي الوحدوي والتنموي العربي، ولإخصاب الفكر الاجتماعي والتنموي على المستويين العربي والعالمي. ”إن الإيديولوجيات كحقائق تاريخية تتميز بالفرادة في بعض خصائصها، بيد أنها في خصائص أخرى تنتمي إلى فئة أو صنف معين. لذلك فهي قابلة للمقارنة.” هذا في اعتقادي ما قام به البيطار بطريقة علمية تثير الإعجاب حيث استخلص نهجاً جديداً، أو نظرية جديدة يمكننا من خلالها تحديد احتمالات نجاح مجتمع ما في تجاوز مرحلة معينة من تاريخه، والتنبؤ بالوجهة السياسية أو بالمسار الذي سيتخذه هذا المجتمع على ضوء فهمنا الحقيقي لإديولوجيته. هذا النهج العلمي جعل البيطار يتميز بمكانة مهمة في الفكر الاجتماعي الكلاسيكي العالمي وفلسفة التاريخ بجانب أساطين بارزين في هذا الفكر من أمثال عبد الرحمن بن خلدون، وكارل ماركس وأرنولد توينبي وغيرهم!
لم يكن نديم البيطار يفكر ويكتب من برج عاجي، بل ربط النظرية بالممارسة العملية مجسدا بالفعل مقولة ماركس: ”أن مهمة الفلسفة يجب ان تكون تغيير العالم بدلاً من الاقتصار على تفسيره أو فهمه كما كان الحال في الماضي.”
فكما اكتشف جيمز واتسون، وفرانسيس كريك بنية الحمض النووي DNA ووظيفته في المجال البيولوجي، وكما اكتشف كارل ماركس قانون الحركة الخاص بتطور نمط الإنتاج الرأسمالي والمجتمع البورجوازي الذي خلقه هذا النمط في المجال الاجتماعي، اكتشف البيطار البنية العامة الأساسية (أو الحمض النووي DNA المتصل بالإيديولوجية) التي تحدث بشكل انتظامي متكرر ومتواصل في جميع الإيديولوجيات الدينية أو العلمانية بصرف النظر عن الاختلافات التي تميز مضمونها !
أيها المعلم الكبير،
أجل إننا خسرناك في مرحلة تاريخية عربية بالغة في الخطورة، إننا نرى أمما تتحفز وتتشوق وتثب بجسارة بالغة لمعانقة المستقبل وتشكيله وفق ما تريد، بينما نرى قوى انكفائية ظلامية في أمتنا تتمسك بماض لا يمكن استعادته وتخاف من مستقبل لا بد من قدومه. إنه الصراع بين الحداثة والتقليدية الذي حدث في معظم المجتمعات تاريخيا. إنني كتلميذ لك متفائل مثلك أثق أنه لا بد للفجر أن ينبثق مهما طال الليل والظلام الدامسين. وكما قال أحدهم من قلب الظلام الكثيف ينبثق شعاع الأمل!
نم قرير العين. إن قدرك كقدر الفلاسفة العظام الذين نادرا ما يشهدون تحقيق أهدافهم خلال حياتهم. لقد كتب ماركس في منتصف القرن التاسع عشر لكن أهدافه أو أهمية أفكاره لم تتضح إلا في القرن العشرين، وما زالت أعمال ماركس تزودنا باستبصارات عظيمة في القرن الحادي والعشرين! أجل نم قرير العين يا رائد الفكر الوحدوي القومي العربي، يا ابن خلدون القرن العشرين لم ولن تذهب أعمالك العظيمة سدى. لقد كنت بمثابة المشعل الذي استنزف طاقته ليضيئ ما حوله مما جعلك بحق تستحق أيضا أن ندعوك رائد التنوير العربي. إن أعمالك العظيمة ستكون دليلنا ودليل أجيال قادمة ومتعاقبة من أمتنا العربية لتحقيق المجتمع العربي الحديث ولإقامة دولة الأقطار العربية المتحدة.
إن تكريسك لحياتك كلها للعمل القومي العربي، وحتى عزوفك عن الإنجاب خشية أن يصرفك ذلك عن مشروعك النهضوي، يجعلك بحق شهيد الأمة. إن الشهادة في رأي تعني تضحية شخص ما بحياته في سبيل الدفاع عن امته، أو النهوض بها. إنك ولدت مسيحيا في بينو في أقصى شمال لبنان حيث طلبت أن تدفن هناك. إن تكريسك لحياتك كلها في سبيل أمتنا يجعلني أشعر أنك ليس من بينو فقط، إنك أيضا من بلدتي الطيبة أقصى جنوب لبنان، ومن بنت جبيل وإنك من بيروت ومن صيدا ومن جبل لبنان ومن تونس والقاهرة والعراق ومن كل الوطن العربي!
لقد كنت أتمنى أن تمنح أعلى الأوسمة العربية في حياتك أو حين وفاتك. ولكن من يتمنى اليوم الحصول على وسام من أي نظام عربي معاصر؟ وكنت أتمنى أن يلف جثمانك الطاهر بعلم دولة الاقطار العربية المتحدة، وأن يكون مثواك الأخير في جانب الشهداء الأبرار. إن قيمتك عند أمتنا وأجيالها القادمة أعظم مما تتصور ولعلك الآن وقد أصبحت في عالم الأبدية أعلم مني بما أقول!
وأخيرا نعاهدك أن نكون أوفياء لمشروعك النهضوي العربي وأن نجعلك مثالنا الأعلى في نبذ الفتن والتجزئة والطائفية والإقليمية وفي العمل على تبني فكر جديد يؤدي لإقامة دولة الوحدة العربية. وداعا أيها الحبيب لقد تنورت بأفكاركم وتشرفت بصداقتكم وبلقائي الأخير بكم وسأضل أعتز بقولي: ”إني عرفت نديم البيطار وعشت في عصره.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى