الصـرخـة

إنت أسير مع اثنين من أصدقائي، كانت الشمس على وشك المغيب، فجأة تحولت السماء إلى اللون الأحمر الدموي. توقفت، وأنا أشعر بالإعياء، واتكأت على السياج. كان يوجد دم وألسنة من النار في أعلى السماء فوق الممر البحري الكحلي وفوق المدينة. مشى أصدقائي، وهناك وقفت، أرتجف من الخوف، وأحسست بصرخة لامتناهية تخترق الطبيعة”.
ما يعتمل في دواخلنا، ربما هو شبيه بتلك الصرخة التي أطلقها الرسام النرويجي إدوارد مانك في لوحته المشهورة”الصرخة”(1893) والتي كلما شاهدتها تتعالى الصرخة في كل كياني، كأنني أسمعها تأتي من بعيد فتلفني بالخوف المرعب. لقد أبدع مانك وهو يستعمل الألوان المشتعلة، خاصة وقد كان يعاني في تلك الفترة من الوحدة واليأس عندما أدرك قوة العالم الطبيعي مقارنة مع الفرد، ولقد عذّبه عدم أهمية الإنسان، خاصة وقد كان يعاني من الجنون في تلك الفترة. وكذلك أخته التي كانت تقيم في مصح عقلي. ويبدو في اللوحة الفم الأجوف المفتوح الذي يطلق الصرخة كأن له ظلا في امتداد اللوحة، ليٌعبئ اللوحة بما يعتمل في داخل مانك، وقد حشرته الألوان الصاخبة داخل تلك الصرخة.
يعترف مانك في مذكراته بأنه عانى من الجنون، ليس على المستوى الشخصي في حياته، ولكن من خلال عائلته، فأخته كانت مصابة بالجنون في السنة التي رسم فيها اللوحة. يقول أحد النقاد بأن ما يميّز مانك كفنان، الصدق حتى وإن كانت اللوحة قبيحة، فهي تعطي ومضة لهمومه الداخلية ومشاعره القلقة، مركزا على أهمية المعنى الشخصي أكثر من تقنية المهارة أو الجمال التي هي الهدف التقليدي للفن.
وطبقا لمذكراته كذلك، فإن ”الصرخة” جاءته بينما كان ينظر إلى مشاهد طبيعية للنرويج وهو يقف في مكان مرتفع. وكما يقول أحد النقاد كذلك، فإن تكرار استعمال اللون الأحمر بطريقة عنيفة، ينقل لنا الصرخة المدوية التي أطلقها مأوى المجانين، كأنه كان يسمع صراخا يأتيه من أخته، فاللوحة هي صرخة مدوية مسموعة ربما أكثر منها لوحة لوجه، هي لوحة الروح في عصرنا الحديث. وعلى ذمة صحيفة الدايلي ميل، فإن هذا الفنان قد تعرض لاضطهاد النازيين. ويظن البعض بأن اللوحة رسمها مانك في فرنسا حين زار متحف الفن هناك، وشاهد بقايا مومياء تشبه الشخص في لوحته. وقد بيعت هذه اللوحة كأغلى لوحة في العالم.
ما جعلني أكتب عن هذه اللوحة، هو الضجيج الذي يسود عالمنا العربي، والفوضى القاتلة التي زرعت في كل مكان، والربيع المدمر الذي اجتاح بلادنا العربية ليأتي على الأخضر واليابس بأيدٍ مأجورة رفعت رايات ”الخلافة الإسلامية” فوق أرض تسبح فيها دماء الشهداء ممن قطعت رؤوسهم، ومثّل بأجسادهم، وأكلت أكبادهم وووو.
هي صرخة في وجه الظلم والقتل والتشريد وانتهاك لكرامة الإنسان وحريته وآدميته. هي صرخة لكل الصامتين الفاغري الأفواه الذين ينتظرون الفرج من مكان ما، ” وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى