في رحيل القائد الزاهد.. حمدي مطر

بمنتهى الصمت والهدوء والتواضع، غادر دنيانا الفانية مناضل باسل وقف حياته كلها لاجل تحرير فلسطين، ورصد ثلاثة ارباع قرن من عمره لخدمة قضايا وطنه وامته، وبقي وفياً لمبادئه وقناعاته حتى قضى نحبه ولفظ آخر انفاسه، فما عدّل ولا بدّل ولا عرف للمواربة سبيلاً.
عاش حمدي مطر ”ابو سمير” زاهداً ومجاهداً، كأنما هو نسخة اخرى من القائد المجاهد المرحوم بهجت ابو غربية.. كلاهما عمل لفلسطين والعروبة معاً وعلى قدم المساواة، ”فابو سامي” نشأ مقاتلاً يذود عن حياض القدس، ثم ما لبث ان اصبح قائداً عروبياً في حزب البعث العربي الاشتراكي، فيما نشأ ”ابو سمير” مناضلاً في حركة القوميين العرب، ثم ما لبث ان اصبح قائداً فدائياً في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
منذ نعومة اظفاره ومطالع شبابه حتى آخر يوم من شيخوخته، انقسمت حياة ”ابو سمير” الى قسمين لا ثالث لهما.. فهو إما قائم في ساح النضال السياسي او الكفاحي المسلح، واما ماثل في السجن لسنوات طويلة ومرات عديدة.. وقد تعرفت عليه بشكل شخصي اواخر عقد السبعينات في جحيم زنازين دائرة المخابرات العامة ايام كانت تجثم عند بوابة الشميساني.
لقد استحق هذا الراحل العزيز والفقيد الكبير محبة واحترام كل الذين عرفوه حق المعرفة، وتعاملوا معه بصدق الرجال.. فهو من اقدر الناس على الجمع في شخصيته بين المتعارضات، ولا اقول المتناقضات.. فهو شديد الصلابة والعناد في مواقفه، ولكنه بالمقابل استاذ البساطة والتساهل والتواضع في يومياته ومعاملاته.. وهو بالغ المهابة والجدية والوقار في حضرة اعدائه وسجانيه، ولكنه بالمقابل سيد المرح والفكاهة وصناعة النكتة بين يدي رفاقه واصدقائه.
مؤلم ان يغيب امثال حمدي مطر عن دنيانا ولا نجد من يخلفهم، او يحل محلهم ويقوم مقامهم، فقد عقمت فلسطيننا المنكوبة وامتنا المعطوبة عن انجاب القامات الوطنية والقيادات القومية المعتبرة، ولم نعد نجد بين ظهرانينا سوى كائنات مشوهة، اما بالعمالة والارتهان للقوى الامبريالية والصهيونية، واما بالجهالة والارهاب والنزعات الهمجية والتكفيرية.
المؤلم اكثر، ان ما يعزينا في رحيل ”ابي سمير” وبقية المناضلين المخضرمين والفرسان الشجعان، اننا سائرون مثلهم على دروب النهاية، ومغادرون قريباً لآخر محطات الشيخوخة، ولاحقون بهم بين عشية وضحاها، حيث يطيب اللقاء عند مليك مقتدر.. وكم صدق الشاعر المتنبي اذ قال في مثل هذه الاحوال..
كفى بك داءً ان ترى الموتَ شافياً                   وحسبُ المنايا ان يكنّ امانيا
رحم الله ”ابا سمير” فقد عاش- كما مات- نبيلاً واصيلاً وزاهداً في الشهرة والثروة وباقي زخارف الحياة وبهارجها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى