الحراك الشعبي المجهض وعودة المكبوت !!

الظاهرة الجديدة التي ولّدها الحراك الشعبي العربي الممتد منذ أكثر من ثلاثة أعوام، يتمثل الآن في ظهور وعودة مكبوتات سياسية وثقافية ودينية أحتبست لفترات طويلة داخل العقول والمجتمعات العربية، وتنطلق الآن في مدارات مختلفة ينتظم بعضها في اطار البحث عن تغييرات حقيقية في الوطن العربي، ويذهب بعضها الآخر أشواطا بعيدة في التفتيت وتوليد فوضى دائمة تجهض أي تطلع عربي نحو الحرية والنهضة وتفتح المجال واسعا أمام امكانية نشوء فراغ مفزع، أو اندفاعات واستباحات خارجية لاحتلال الفراغ وتسخيره لمصالح ضارة في الوطن العربي حاضرا ومستقبلا .

ولأننا لا نريد تفسير هذا الحراك التاريخي بالفوضى التي أعقبته أو نشأت في مساراته ( كما دأبت أو درجت الكثير من التحليلات على تفسيره) ونسعى فيما نسعى الى امتلاك أدوات معرفية جديدة في تناوله، لذا فاننا نتطلع الآن الى تفسير طبيعة الفوضى الطالعة من الحراك وأسبابها، بالمكبوت الذى تخفّى وتخبأ وتجلى في طيات مجتمعات عاشت دهرا من الاستبداد المطلق وعانت الأمرّين من الاستلاب والاغتراب، وتم الاعتداء على روحها وعقلها بطريقة فاقت كل التصورات والاعتبارات، وعودة هذا المكبوت التي تبدت بأشكال عنفية ونكوصية ومضادة للثورة الحقيقية .
وما الذي كان يرتجى من هذه المجتمعات المكبوتة والمقهورة والمهدورة عندما تطل عليها لحظة لاهبة من لحظات التاريخ وتجد نفسها في الميادين والشوارع تتأهب لتصنع هذا التاريخ، وعندما تفاجيء ذاتها بهذا الانبثاق والانبناء التلقائي الغريب لوعيها المجروح، الا أن تكون بوعي مختلط ومرتجّ وناقص وقابل للاستغلال والتوظيف أو الاستدراج ليكون وعيا شقيا ومتوحشا ونافرا يألف العنف والفوضى أكثر من ألفة الرشاد والعقلانية .
مجتمعات الحراك والدول التي انطلق منها لم تعتد على الديموقراطية ولم تتدرب على لغة الحوار، ولم تألف التعددية ووحدة الأضداد ولم تتح لها فرص التغيّر والتغيير، ولذا تحركت بثقافتها المشتتة والسلفية وبوعيها الشقي والمتطرف أحيانا وغدت في لحظة ما جمهورا طائشا لا ينتظمه ناظم ولا تردعه أية محددات أو محظورات .
ولذا كانت هذه المكبوتات والتناقضات منتظرة ومتوقعة من قبل الوعي والعقل اليقظ الذي يعرف ماهية الثورات ومزاج الجماهير وامكانيات استدراج هذه الجماهير واختطافها في لحظة معينة الى محطات مغلوطة وغائمة وغير معبرة عن الثورة والتغيير ومعناهما التاريخي .
حدث هذا الالتباس السياسي في لحظة اعتقد فيها البعض بمثالية نادرة أن ما حدث في الوطن العربي من حراكات احتجاجية وانتفاضات سوف ينقل الامة من الجحيم الى الجنة، وسوف تتم تصفية كل الحسابات الفكرية والسياسية والمجتمعية العربية المزمنة والمتراكمة بضربة واحدة، وكانت تلك من الأساطير التي تناولها وروّج لها من اعتقدوا أن الاطاحة بالطغاة سوف تولد صبحا مشرقا وتغييرا جذريا في اليوم التالي، وأن ما تراكم من خراب وفساد سوف يزول بسرعة البرق بعد زوال رموزه، وكانت هذه الرؤى الشاردة هي ما ولّد الاختلاط والالتباس في الوعي العربي الجمعي، ولم تؤسس لوعي عميق ومديد وممكنات واحتمالات لاحقة لاحداث ثورة في الثورات لتجذيرها وتأكيد معناها وآثارها ومآلاتها التاريخية الحقيقية .
الوقوف أمام الفوضى الهدامة وحدها في المرحلة الراهنة في تفسير ما حدث ويحدث يعني الاستسلام للأفكار الاستشراقية التي تتحدث عن جوهرانية عربية تقوم على التخلف والعنف والانسداد والاستعصاء على الحرية والديموقراطية وعدم القابلية للثورة، ووجوب أو جواز استساغة ذلك سياسيا ومعرفيا باعتباره قدرا محتما وماهية دونية مزمنة لدى العرب.!! .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى